الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***
المتن: هُمْ مُخَالِفُو الْإِمَامِ بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الِانْقِيَادِ، أَوْ مَنْعِ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِ شَوْكَةٍ لَهُمْ وَتَأْوِيلٍ، وَمُطَاعٍ فِيهِمْ، قِيلَ وَإِمَامٌ مَنْصُوبٌ، وَلَوْ أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ كَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَتَكْفِيرِ ذِي كَبِيرَةٍ وَلَمْ يُقَاتِلُوا تُرِكُوا، وَإِلَّا فَقُطَّاعُ طَرِيقٍ.
الشَّرْحُ: كِتَابُ الْبُغَاةِ جَمْعُ بَاغٍ، وَالْبَغْيُ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ سُمُّوا بِذَلِكَ لِظُلْمِهِمْ وَعُدُولِهِمْ عَنْ الْحَقِّ كَمَا يُقَالُ بَغَتْ الْمَرْأَةُ إذَا فَجَرَتْ، وَافْتَتَحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} الْآيَةَ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ، لَكِنَّهَا تَشْمَلُهُ لِعُمُومِهَا أَوْ تَقْتَضِيهِ لِأَنَّهُ إذَا طَلَبَ الْقِتَالَ لِبَغْيِ طَائِفَةٍ عَلَى طَائِفَةٍ، فَلِلْبَغْيِ عَلَى الْإِمَامِ أَوْلَى، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى قِتَالِهِمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أُخِذَتْ السِّيرَةُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَفِي قِتَالِ الْبُغَاةِ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَدْ عَرَّفَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبُغَاةَ بِقَوْلِهِ (هُمْ) مُسْلِمُونَ (مُخَالِفُو الْإِمَامِ) وَلَوْ جَائِرًا وَهُمْ عَادِلُونَ كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ وَمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ مِنْ التَّقْيِيدِ بِالْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَكَذَا هُوَ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ مُرَادُهُمْ إمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إنَّ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقِتَالَهُمْ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ لَكِنْ نُوزِعَ فِي الْإِجْمَاعِ بِخُرُوجِ الْحُسَيْنِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَمَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مُرَادَهُ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَنْ تَغَلَّبَ عَلَى الْإِمَامَةِ فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ إذَا جَارَ وَبَغَى، وَبَيْنَ مَنْ عُقِدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ فَلَا يَجُوزُ، وَتَحْصُلُ مُخَالَفَةُ الْإِمَامِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا (بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ) نَفْسِهِ (وَ) إمَّا بِسَبَبِ (تَرْكِ الِانْقِيَادِ) لَهُ (أَوْ) لَا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ بِخُرُوجٍ عَنْ طَاعَتِهِ بِسَبَبِ (مَنْعِ حَقٍّ) مَالِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِآدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ كَقِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ (تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ لِمَنْعِهِمْ الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْرُجُوا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَنَعُوا الْحَقَّ الْمُتَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُخَالِفُو الْإِمَامِ بُغَاةً (بِشَرْطِ شَوْكَةٍ لَهُمْ) بِكَثْرَةٍ أَوْ قُوَّةٍ وَلَوْ بِحِصْنٍ يُمْكِنُ مَعَهَا مُقَاوَمَةُ الْإِمَامِ فَيَحْتَاجُ فِي رَدِّهِمْ إلَى الطَّاعَةِ لِكُلْفَةٍ مِنْ بَذْلِ مَالٍ وَتَحْصِيلِ رِجَالٍ (وَ) بِشَرْطِ (تَأْوِيلٍ) يَعْتَقِدُونَ بِهِ جَوَازَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ أَوْ مَنْعِ الْحَقِّ الْمُتَوَجَّهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ كَانَ مُعَانِدًا لِلْحَقِّ. تَنْبِيهٌ: يُشْتَرَطُ فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا لَا يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ بِهِ جَوَازَ الْخُرُوجِ كَتَأْوِيلِ الْخَارِجِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ يَعْرِفُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقْتَصُّ مِنْهُمْ لِمُوَاطَأَتِهِ إيَّاهُمْ، وَتَأْوِيلِ بَعْضِ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَدْفَعُونَ الزَّكَاةَ إلَّا لِمَنْ صَلَاتُهُ سَكَنٌ لَهُمْ وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَ) بِشَرْطٍ (مُطَاعٍ فِيهِمْ) أَيْ مَتْبُوعٍ يَحْصُلُ بِهِ قُوَّةٌ لِشَوْكَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا مَنْصُوبًا فِيهِمْ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، إذْ لَا قُوَّةَ لِمَنْ لَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ مُطَاعٌ، وَهَذَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُطَاعَ شَرْطٌ لِحُصُولِ الشَّوْكَةِ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ آخَرُ غَيْرُ الشَّوْكَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَعْبِيرُ الْكِتَابِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُحَرَّرِ غَيْرَ شَرْطَيْنِ وَجَعَلَ الْمُطَاعَ قَيْدًا فِي الشَّوْكَةِ (قِيلَ وَ) يُشْتَرَطُ (إمَامٌ مَنْصُوبٌ) فِيهِمْ حَتَّى لَا تَتَعَطَّلَ الْأَحْكَامُ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مَا نَسَبَهُ الرَّافِعِيُّ لِلْجَدِيدِ وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ لِلْمُعْظَمِ، وَجَزَمَ بِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ. تَنْبِيهَانِ: أَحَدُهُمَا: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُوهِمُ اعْتِبَارَ وُجُودِ شَخْصَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ مُرَادًا: بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُطَاعٍ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا فِيهِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَاتَلَ أَهْلَ الْجَمَلِ وَلَا إمَامَ لَهُمْ وَأَهْلَ صِفِّينَ قَبْلَ نَصْبِ إمَامِهِمْ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ انْفِرَادُ الْبُغَاةِ بِبَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ مِنْ الصَّحْرَاءِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ جَمْعٍ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. الثَّانِي لَيْسَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِفَسَقَةٍ كَمَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِكَفَرَةٍ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا خَالَفُوا بِتَأْوِيلٍ جَائِزٍ بِاعْتِقَادِهِمْ لَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ، وَلَيْسَ اسْمُ الْبَغْيِ ذَمًّا، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيمَا يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ كَحَدِيثِ {مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا} وَحَدِيثُ {مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ} وَحَدِيثِ {مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ} مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ خَرَجَ عَنْ الطَّاعَةِ بِلَا تَأْوِيلٍ أَوْ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ قَطْعًا، فَإِنْ فُقِدَتْ فِيهِمْ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ بِأَنْ خَرَجُوا بِلَا تَأْوِيلٍ كَمَانِعِي حَقِّ الشَّرْعِ كَالزَّكَاةِ عِنَادًا أَوْ بِتَأْوِيلٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ كَتَأْوِيلِ الْمُرْتَدِّينَ، وَمَانِعِي حَقِّ الشَّرْعِ كَالزَّكَاةِ الْآنَ وَالْخَوَارِجِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَوْكَةٌ بِأَنْ كَانُوا أَفْرَادًا يَسْهُلُ الظَّفَرُ بِهِمْ، أَوْ لَيْسَ فِيهِمْ مُطَاعٌ فَلَيْسُوا بُغَاةً لِانْتِفَاءِ حُرْمَتِهِمْ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ مُقْتَضَاهَا، وَلِأَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ قَتَلَ عَلِيًّا مُتَأَوِّلًا بِأَنَّهُ وَكِيلُ امْرَأَةٍ قَتَلَ عَلِيٌّ أَبَاهَا فَاقْتُصَّ مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطَ حُكْمَهُمْ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ لِانْتِفَاءِ شَوْكَتِهِ (وَلَوْ أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ) وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ يُكَفِّرُونَ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَيَطْعَنُونَ بِذَلِكَ فِي الْأَئِمَّةِ لَا يَحْضُرُونَ مَعَهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَاتِ كَمَا أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (كَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَتَكْفِيرِ ذِي) أَيْ صَاحِبِ (كَبِيرَةٍ) وَلَمْ نُكَفِّرْهُمْ بِذَلِكَ كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ (وَلَمْ يُقَاتِلُوا) وَهُمْ فِي قَبْضَتِنَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ (تُرِكُوا) فَلَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا بَيْنَنَا أَمْ امْتَازُوا بِمَوْضِعٍ عَنَّا لَكِنْ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَلَمْ يَفْسُقُوا بِذَلِكَ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً كَفَرَ وَحَبَطَ عَمَلُهُ وَخَلَدَ فِي النَّارِ، وَأَنَّ دَارَ الْإِمَامِ صَارَتْ بِظُهُورِ الْكَبَائِرِ فِيهَا دَارَ كُفْرٍ وَإِبَاحَةٍ، فَلِذَلِكَ طَعَنُوا فِي الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يُصَلُّوا خَلْفَهُمْ وَتَجَنَّبُوا الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَلَوْ صَرَّحُوا بِسَبِّ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ عُزِّرُوا لَا إنْ عَرَّضُوا فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ الْخَوَارِجِ، يَقُول: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَرَّضَ بِتَخْطِئَتِهِ فِي الْحُكْمِ، فَقَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ فَجَعَلَ حُكْمَهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْعَدْلِ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ إذَا لَمْ نَتَضَرَّرْ بِهِمْ، فَإِنْ تَضَرَّرْنَا بِهِمْ تَعَرَّضْنَا لَهُمْ حَتَّى يَزُولَ الضَّرَرُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَنْ الْأَصْحَابِ (وَإِلَّا) بِأَنْ قَاتَلُونَا أَوْ لَمْ يَكُونُوا فِي قَبْضَتِنَا (فَقُطَّاعُ) أَيْ فَحُكْمُهُمْ إنْ لَمْ نُكَفِّرْهُمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا سَبَقَ كَحُكْمِ قُطَّاعِ (طَرِيقٍ) فَإِنْ قَتَلُوا أَحَدًا مِمَّنْ يُكَافِئُهُمْ اُقْتُصَّ مِنْهُمْ كَغَيْرِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ قُطَّاعُ طَرِيقٍ كَمَا يُفْهِمُهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فَلَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي شَهْرِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا إخَافَةَ الطَّرِيقِ.
المتن: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبُغَاةِ وَقَضَاءُ قَاضِيهِمْ فِيمَا يُقْبَلُ قَضَاءُ قَاضِينَا إلَّا أَنْ يَسْتَحِلَّ دِمَاءَنَا، وَيَنْفُذُ كِتَابُهُ بِالْحُكْمِ وَيُحْكَمُ بِكِتَابِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الْبُغَاةِ بِقَوْلِهِ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبُغَاةِ) لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِفَسَقَةٍ كَمَا مَرَّ لِتَأْوِيلِهِمْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَشْهَدُونَ لَمُوَافِقِيهِمْ بِتَصْدِيقِهِ كَالْخَطَّابِيَّةِ، وَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الرَّافِضَةِ يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ وَيَقْضُونَ بِهِ لِمُوَافِقِيهِمْ بِتَصْدِيقِهِمْ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُ قَاضِيهِمْ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالْبُغَاةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ، وَسَيَأْتِي فِيهَا أَنَّهُمْ إنْ بَيَّنُوا السَّبَبَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ حِينَئِذٍ (وَ) يُقْبَلُ (قَضَاءُ قَاضِيهِمْ) بَعْدَ اعْتِبَارِ صِفَاتِ الْقَاضِي فِيهِ (فِيمَا يُقْبَلُ) فِيهِ (قَضَاءُ قَاضِينَا) لِأَنَّ لَهُمْ تَأْوِيلًا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ (إلَّا أَنْ يَسْتَحِلَّ) شَاهِدُ الْبُغَاةِ أَوْ قَاضِيهِمْ (دِمَاءَنَا) وَأَمْوَالَنَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَشَرْطُ الشَّاهِدِ وَالْقَاضِي الْعَدَالَةُ. تَنْبِيهٌ: مَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ شَهَادَتِهِ وَنُفُوذِ قَضَائِهِ إذَا اسْتَحَلَّ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَمَا نَقَلَاهُ فِي الرَّوْضَة وَأَصْلِهَا هُنَا عَنْ الْمُعْتَبِرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَقَضَاءِ قَاضِيهِمْ بَيْنَ مَنْ يَسْتَحِلُّ الدَّمَ وَالْمَالَ أَمْ لَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْفِسْقِ فِي مَعْنَى اسْتِحْلَالِ الدَّمِ وَالْمَالِ، وَلَوْ شَكَكْنَا فِي الِاسْتِحْلَالِ حَيْثُ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ وَلَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ: فَقَوْلَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. وَقَالَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَدَمُ قَبُولِ الْحُكْمِ، وَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي الشَّهَادَةِ، وَخَرَجَ بِمَا يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ قَاضِينَا غَيْرُهُ كَأَنْ حَكَمَ بِمَا يُخَالِفُ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا، فَلَا يُقْبَلُ (وَيُنَفِّذُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ قَاضِينَا (كِتَابَهُ) أَيْ قَاضِي الْبُغَاةِ (بِالْحُكْمِ) فَإِذَا كَتَبَ بِمَا حَكَمَ بِهِ إلَى قَاضِينَا جَازَ لَهُ قَبُولُهُ وَتَنْفِيذُهُ، وَلَكِنْ يُسَنُّ لَهُ عَدَمُ تَنْفِيذِهِ اسْتِخْفَافًا بِهِمْ (وَيَحْكُمُ بِكِتَابِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ) أَيْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ (فِي الْأَصَحِّ) كَتَقْيِيدِ كِتَابِهِ بِالْحُكْمِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِهِ لِمَا مَرَّ. وَالثَّانِي لَا يَحْكُمُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعُونَةَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَإِقَامَةِ مَنَاصِبِهِمْ. تَنْبِيهٌ: تَبِعَ الْمُحَرَّرُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ وَجْهَيْنِ، لَكِنَّهُ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا جَعَلَهُ قَوْلَيْنِ، وَطَرَدَهُمَا الْإِمَامُ فِي الْكِتَابِ بِالْحُكْمِ.
المتن: وَلَوْ أَقَامُوا حَدًّا وَأَخَذُوا زَكَاةً وَخَرَاجًا وَجِزْيَةً وَفَرَّقُوا سَهْمَ الْمُرْتَزِقَةِ عَلَى جُنْدِهِمْ صَحَّ، وَفِي الْأَخِيرِ وَجْهٌ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ) اسْتَوْلَى الْبُغَاةُ عَلَى بَلَدٍ وَ (أَقَامُوا) أَيْ وُلَاةُ أُمُورِهِمْ (حَدًّا) عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ (وَأَخَذُوا زَكَاةً) مِنْ أَهْلِهَا (وَخَرَاجًا) مِنْ أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ (وَجِزْيَةً) مِنْ أَهْلِ ذِمَّةٍ (وَفَرَّقُوا سَهْمَ الْمُرْتَزِقَةِ) مِنْ الْفَيْءِ (عَلَى جُنْدِهِمْ صَحَّ) مَا فَعَلُوهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ تَأَسِّيًا بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَلِأَنَّ فِي إعَادَةِ الْمُطَالَبَةِ إضْرَارًا بِأَهْلِ الْبَلَدِ، أَمَّا إذَا أَقَامَ الْحَدَّ غَيْرُ وُلَاتِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَمَحَلُّ الِاعْتِدَادِ بِهِ فِي الزَّكَاةِ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعَجَّلَةٍ، أَوْ كَانَتْ مُعَجَّلَةً لَكِنْ اسْتَمَرَّتْ شَوْكَتُهُمْ حَتَّى وَجَبَتْ، فَلَوْ زَالَتْ شَوْكَتُهُمْ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يَقَعْ مَا عَجَّلُوهُ مَوْقِعَهُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْأَخْذِ. قَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ بِصَدَقَةٍ عَامَّةٍ (وَفِي الْأَخِيرِ) وَهُوَ تَفْرِقَةُ سَهْمِ الْمُرْتَزِقَةِ عَلَى جُنْدِهِمْ (وَجْهٌ) أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْمَوْقِعَ لِئَلَّا يَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُمْ مِنْ جُنْدِ الْإِسْلَامِ، وَرُعْبُ الْكُفَّارِ قَائِمٌ بِهِمْ، وَفِي الْجِزْيَةِ أَيْضًا وَجْهٌ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ، وَفِي الزَّكَاةِ أَيْضًا وَجْهٌ حَكَاهُ الْقَاضِي. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَصَرَّحَ فِي الْإِشْرَافِ بِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْخَرَاجِ.
المتن: وَمَا أَتْلَفَهُ بَاغٍ عَلَى عَادِلٍ وَعَكْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِتَالٍ ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا، وَفِي قَوْلٍ يَضْمَنُ الْبَاغِي.
الشَّرْحُ: (وَمَا أَتْلَفَهُ بَاغٍ) مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ (عَلَى عَادِلٍ وَعَكْسُهُ) أَيْ أَتْلَفَهُ عَادِلٌ عَلَى بَاغٍ (إنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِتَالٍ) لِضَرُورَتِهِ بِأَنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ أَوْ فِيهِ لَا لِضَرُورَتِهِ (ضَمِنَ) قَطْعًا كُلٌّ مِنْهُمَا مُتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ جَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ فِي الْإِتْلَافَاتِ. تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا قَصَدَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ إضْعَافَهُمْ وَهَزِيمَتَهُمْ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: بِخِلَافِ مَا لَوْ قَصَدُوا التَّشَفِّيَ وَالِانْتِقَامَ (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَ الْإِتْلَافُ فِي قِتَالٍ لِضَرُورَتِهِ (فَلَا) ضَمَانَ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ؛ لِأَنَّ الْوَقَائِعَ الَّتِي جَرَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَوَقْعَةِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ لَمْ يُطَالِبْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِضَمَانِ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَتَرْغِيبًا فِي الطَّاعَةِ لِئَلَّا يَنْفِرُوا عَنْهَا وَيَتَمَادَوْا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، وَلِهَذَا سَقَطَتْ التَّبِعَةُ عَنْ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ، وَلِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالْقِتَالِ فَلَا يُضْمَنُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ وَهُمْ إنَّمَا أَتْلَفُوا بِتَأْوِيلٍ (وَفِي قَوْلٍ يَضْمَنُ الْبَاغِي) مَا أَتْلَفَهُ عَلَى الْعَادِلِ؛ لِأَنَّهُمَا فِرْقَتَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُحِقَّةٌ وَمُبْطِلَةٌ فَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِشُبْهَةِ تَأْوِيلِهَا. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا يُؤْخَذُ. مِمَّا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ فِيمَا أَتْلَفَ فِي الْقِتَالِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ، فَإِنْ أَتْلَفَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ ضَمِنَ قَطْعًا، قَالَهُ الْإِمَامُ وَأَقَرَّاهُ ثُمَّ مَا ذَكَرَ بِالنِّسْبَةِ لِلضَّمَانِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّحْرِيمِ فَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: لَا يَتَّصِفُ إتْلَافُهُمْ بِإِبَاحَةٍ وَلَا بِتَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا يُتْلِفُهُ الْكُفَّارُ حَالَ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ. فَرْعٌ: لَوْ وَطِئَ بَاغٍ أَمَةَ عَادِلٍ بِلَا شُبْهَةٍ حُدَّ وَرُقَّ الْوَلَدُ وَلَا نَسَبَ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حِينَئِذٍ زِنًا، وَمَتَى كَانَتْ مُكْرَهَةً عَلَى الْوَطْءِ لَزِمَهُ الْمَهْرُ كَغَيْرِهِ، وَبَعْضُهُمْ اسْتَثْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّف نَفْيَ الضَّمَانِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْبُضْعِ بِالْوَطْءِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْقِتَالِ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيهِ. وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ إذَا وَطِئَ أَمَةَ غَيْرٍ بِلَا شُبْهَةٍ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ رَقِيقًا، وَلَا نَسَبَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا مَهْرَ إنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً عَلَى الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْأَحْكَامَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ نَفْيِ الضَّمَانِ مَحَلُّهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشَّوْكَةِ وَالتَّأْوِيلِ، فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُهُمَا فَلَهُ حَالَانِ أَشَارَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ.
المتن: وَالْمُتَأَوِّلُ بِلَا شَوْكَةٍ يَضْمَنُ، وَعَكْسُهُ كَبَاغٍ.
الشَّرْحُ: (وَ) الْبَاغِي (الْمُتَأَوِّلُ بِلَا شَوْكَةٍ) لَهُ (يَضْمَنُ) النَّفْسَ وَالْمَالَ وَلَوْ حَالَ الْقِتَالِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَلِأَنَّا لَوْ أَسْقَطْنَا الضَّمَانَ عَنْهُ لَمْ تَعْجَزْ كُلُّ شِرْذِمَةٍ تُرِيدُ إتْلَافَ نَفْسٍ وَمَالٍ أَنْ تُبْدِيَ تَأْوِيلًا وَتَفْعَلَ مِنْ الْفَسَادِ مَا تَشَاءُ، وَفِي ذَلِكَ بُطْلَانُ السِّيَاسَاتِ، وَأَشَارَ إلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ (وَعَكْسُهُ) وَهُوَ مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ بِلَا تَأْوِيلٍ حُكْمُهُ (كَبَاغٍ) فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ عَدَمُ الضَّمَانِ فِي حَالِ الْقِتَالِ لِضَرُورَتِهِ فَكَذَا هُنَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ فِي الْبَاغِينَ لِقَطْعِ الْفِتْنَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ بِالضَّمَانِ. تَنْبِيهٌ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْبُغَاةِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلضَّمَانِ كَمَا قَيَّدْتُ بِهِ كَلَامَهُ؛ لِأَنَّهُ السَّابِقُ أَوَّلًا. أَمَّا الْحُدُودُ إذَا أَقَامُوهَا، أَوْ الْحُقُوقُ إذَا قَبَضُوهَا، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِمْ. قَالَ الشَّيْخَانِ: وَالتَّحْكِيمُ فِيهِمْ عَلَى الْخِلَافِ فِي غَيْرِهِمْ. فَرْعٌ: لَوْ ارْتَدَّتْ طَائِفَةٌ لَهُمْ شَوْكَةٌ فَأَتْلَفُوا مَالًا أَوْ نَفْسًا فِي الْقِتَالِ ثُمَّ تَابُوا وَأَسْلَمُوا هَلْ يَضْمَنُونَ أَوْ لَا كَالْبُغَاةِ؟ وَجْهَانِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ الْأَوَّلُ لِجِنَايَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ النَّصِّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ. وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إنَّهُ الْوَجْهُ، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاءُ قَاضِي الْمُرْتَدِّينَ قَطْعًا، قَالَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ.
المتن: وَلَا يُقَاتِلُ الْبُغَاةَ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ أَمِينًا فَطِنًا نَاصِحًا يَسْأَلُهُمْ مَا يَنْقِمُونَ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَوْ شُبْهَةً أَزَالَهَا، فَإِنْ أَصَرُّوا نَصَحَهُمْ ثُمَّ آذَنَهُمْ بِالْقِتَالِ، فَإِنْ اسْتَمْهَلُوا اجْتَهَدَ وَفَعَلَ مَا رَآهُ صَوَابًا، وَلَا يُقَاتِلُ مُدْبِرَهُمْ وَلَا مُثْخَنَهُمْ وَأَسِيرَهُمْ وَلَا يُطْلَقُ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَامْرَأَةً حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَيَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ إلَّا أَنْ يُطِيعَ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَرُدُّ سِلَاحَهُمْ وَخَيْلَهُمْ إلَيْهِمْ إذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ وَأُمِنَتْ غَائِلَتُهُمْ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي قِتَالٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا يُقَاتَلُونَ بِعَظِيمٍ كَنَارٍ وَمَنْجَنِيقٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَأَنْ قَاتَلُوا بِهِ أَوْ أَحَاطُوا بِنَا
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي كَيْفِيَّةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ فَقَالَ (وَلَا يُقَاتِلُ) الْإِمَامُ (الْبُغَاةَ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ أَمِينًا فَطِنًا) إنْ كَانَ الْبَعْثُ لِلْمُنَاظَرَةِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (نَاصِحًا) لَهُمْ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ (يَسْأَلُهُمْ مَا يَنْقِمُونَ) أَيْ يَكْرَهُونَ اقْتِدَاءً بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا إلَى أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ وَأَبَى بَعْضُهُمْ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ أَنَّ الْبَعْثَ وَاجِبٌ وَهُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الشَّرْحَيْنِ أَيْضًا، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ فِي الْمَطْلَبِ؛ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ (فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً) هِيَ سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ الطَّاعَةِ، وَهِيَ إنْ كَانَتْ مَصْدَرًا مِيمِيًّا فَبِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْفَتْحُ هُوَ الْقِيَاسُ، أَوْ اسْمًا لِمَا يُظْلَمُ بِهِ فَالْكَسْرُ فَقَطْ (أَوْ شُبْهَةً أَزَالَهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقِتَالِهِمْ رَدُّهُمْ إلَى الطَّاعَةِ، وَدَفْعُ شَرِّهِمْ كَدَفْعِ الصَّائِلِ دُونَ قَتْلِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} [ الْحُجُرَاتُ ] أَيْ تَرْجِعَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ (فَإِنْ أَصَرُّوا) بَعْدَ الْإِزَالَةِ أَوْ لَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا (نَصَحَهُمْ) وَوَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْبَغْيِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْعَوْدِ لِلطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ (ثُمَّ) إنْ أَصَرُّوا دَعَاهُمْ إلَى الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا أَوْ أَجَابُوا وَغُلِبُوا فِي الْمُنَاظَرَةِ وَأَصَرُّوا (آذَنَهُمْ) بِالْمَدِّ: أَيْ أَعْلَمَهُمْ (بِالْقِتَالِ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَوَّلًا بِالْإِصْلَاحِ ثُمَّ بِالْقِتَالِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ: إنَّمَا يُعْلِمُهُمْ بِالْقِتَالِ إذَا عَلِمَ أَنَّ فِي عَسْكَرِهِ قُوَّةً وَقُدْرَةً عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا أَخَّرَهُ إلَى أَنْ تُمْكِنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ: لِأَنَّهُ الِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ النَّصِّ، وَقِتَالُهُمْ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ بِأَحَدِ خَمْسَةِ أُمُورٍ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِحَرِيمِ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَوْ يَتَعَطَّلَ جِهَادُ الْكُفَّارِ بِهِمْ، أَوْ يَأْخُذُوا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ أَوْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يَتَظَاهَرُوا عَلَى خَلْعِ الْإِمَامِ الَّذِي قَدْ انْعَقَدَتْ بَيْعَتُهُ، فَلَوْ انْفَرَدُوا عَنْ الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَمْنَعُوا حَقًّا وَلَا تَعَدَّوْا إلَى مَا لَيْسَ لَهُمْ جَازَ قِتَالُهُمْ لِأَجْلِ تَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَجِبُ لِتَظَاهُرِهِمْ بِالطَّاعَةِ (فَإِنْ اسْتَمْهَلُوا) أَيْ طَلَبُوا الْإِمْهَالَ مِنْ الْإِمَامِ (اجْتَهَدَ) فِيهِ وَفِي عَدَمِهِ (وَفَعَلَ مَا رَآهُ صَوَابًا) مِنْهُمَا وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ اسْتِمْهَالَهُمْ لِلتَّأَمُّلِ فِي إزَالَةِ الشُّبْهَةِ أَمْهَلَهُمْ لِيَتَّضِحَ لَهُمْ الْحَقُّ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُمْ يَحْتَالُونَ لِاجْتِمَاعِ عَسَاكِرِهِمْ وَانْتِظَارِ مَدَدِهِمْ لَمْ يُمْهِلْهُمْ، وَإِنْ سَأَلُوا تَرْكَ الْقِتَالِ أَبَدًا لَمْ يُجِبْهُمْ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ مُدَّةَ الْإِمْهَالِ لَا تَتَقَيَّدُ وَهُوَ كَذَلِكَ، بَلْ تَرْجِعُ إلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَفِي التَّهْذِيبِ كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَفِي الْمُهَذَّبِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَضِيَّتُهُ أَيْضًا مُرَاعَاةُ هَذَا التَّدْرِيجِ فِي الْقِتَالِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ فَقَالَ: سَبِيلُهُ سَبِيلُ دَفْعِ الصَّائِلِ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى (وَلَا يُقَاتِلُ مُدَبَّرَهُمْ) إذَا وَقَعَ قِتَالٌ، وَلَا مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ الْقِتَالِ (وَلَا مُثْخَنَهُمْ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَثْخَنَهُ الْجُرْحُ إذَا أَضْعَفَهُ (وَ) لَا (أَسِيرَهُمْ) إذَا كَانَ الْإِمَامُ يَرَى رَأْيَنَا فِيهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ} [ الْحُجُرَاتُ ] وَالْفَيْئَةُ: الرُّجُوعُ عَنْ الْقِتَالِ بِالْهَزِيمَةِ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ فَنَادَى: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَلِأَنَّ قِتَالَهُمْ شُرِعَ لِلدَّفْعِ عَنْ مَنْعِ الطَّاعَةِ وَقَدْ زَالَ. أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ الْمُدْبِرُ الْمُتَحَرِّفُ لِلْقِتَالِ، أَوْ الْمُتَحَيِّزُ إلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ فَيُقَاتَلَانِ، بِخِلَافِ الْمُتَحَيِّزِ إلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ، وَمَا إذَا انْهَزَمُوا مُجْتَمِعِينَ تَحْتَ رَايَةِ زَعِيمِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى الطَّاعَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: أَوْ يَتَبَدَّدُوا. تَنْبِيهٌ: عَبَّرَ فِي الْمُحَرَّرِ فِي الْمُدْبِرِ بِالْقِتَالِ، وَفِي الْآخَرِينَ بِالْقَتْلِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الْمُثْخَنَ وَالْأَسِيرَ لَا يُقَاتِلَانِ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَنْعِ قَتْلِ هَؤُلَاءِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ بِقَتْلِهِمْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ لِشُبْهَةِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَلَا يُطْلَقُ) أَسِيرُهُمْ بَلْ يُحْبَسُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، إذْ بِحَبْسِهِ تَضْعُفُ الْبُغَاةُ (وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَامْرَأَةً) وَعَبْدًا (حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَ) تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُمْ بِأَنْ (يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ) لِيَنْكَشِفَ شَرُّهُمْ وَلَا يُتَوَقَّعُ عَوْدُهُمْ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ اسْتِمْرَارِ حَبْسِهِمْ إلَى أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ، وَمَحَلُّهُ فِي الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُتَأَهِّلِ لِلْقِتَالِ وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالشَّيْخُ الْفَانِي إنْ كَانُوا مُقَاتِلِينَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَيُلْحَقُ بِهِمَا الْآخَرَانِ، وَإِلَّا أُطْلِقُوا بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَإِنْ خِفْنَا عَوْدَهُمْ (إلَّا أَنْ يُطِيعَ) الْأَسِيرُ (بِاخْتِيَارِهِ) بِمُبَايَعَةِ الْإِمَامِ وَالرُّجُوعِ عَنْ الْبَغْيِ إلَى الطَّاعَةِ فَيُطْلَقُ قَبْلَ ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ خَاصٌّ بِالرَّجُلِ الْحُرِّ. أَمَّا الصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ فَلَا بَيْعَةَ لَهُمْ (وَيَرُدُّ) وُجُوبًا (سِلَاحَهُمْ وَخَيْلَهُمْ) وَغَيْرَهُمَا (إلَيْهِمْ إذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ وَأُمِنَتْ غَائِلَتُهُمْ) أَيْ شَرُّهُمْ بِتَفَرُّقِهِمْ أَوْ رَدِّهِمْ لِلطَّاعَةِ لِزَوَالِ الْمَحْذُورِ حِينَئِذٍ. تَنْبِيهٌ: فُهِمَ مِنْ رَدِّ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ إلَيْهِمْ غَيْرُهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ عَوْنًا لَهُمْ فِي الْقِتَالِ مِنْ بَابِ أَوْلَى (وَلَا يُسْتَعْمَلُ) أَيْ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِمْ وَخَيْلِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (فِي قِتَالٍ) وَغَيْرِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ} (إلَّا لِضَرُورَةٍ) كَمَا إذَا خِيفَ انْهِزَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَ خُيُولِهِمْ فَيَجُوزُ لَهُمْ رُكُوبُهَا وَكَذَا إنْ لَمْ يَجِدُوا مَا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْهُمْ غَيْرَ سِلَاحِهِمْ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ ذَلِكَ وُجُوبُ أُجْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقِتَالِ لِلضَّرُورَةِ كَالْمُضْطَرِّ إذَا أَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ. وَالْأَوْجَهُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْأَنْوَارِ خِلَافُهُ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ لِمَا يُتْلَفُ فِي الْقِتَالِ وَتُفَارِقُ مَسْأَلَةُ الْمُضْطَرِّ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهَا نَشَأَتْ مِنْ الْمُضْطَرِّ بِخِلَافِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّهَا إنَّمَا نَشَأَتْ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ (وَلَا يُقَاتَلُونَ بِعَظِيمٍ كَنَارٍ وَمَنْجَنِيقٍ) وَإِرْسَالِ سَيْلٍ وَأُسُودٍ وَحَيَّاتٍ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُهْلِكَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَالِهِمْ رَدُّهُمْ إلَى الطَّاعَةِ كَمَا مَرَّ، وَقَدْ يَرْجِعُونَ فَلَا يَجِدُونَ لِلنَّجَاةِ سَبِيلًا، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا}. تَنْبِيهٌ: لَوْ عَبَّرَ بِمَا يَعُمُّ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ آلَةَ الْحَرْبِ قَدْ تَعْظُمُ وَلَكِنْ لَا تَعُمُّ، وَلَيْسَ الْمَنْعُ إلَّا مِمَّا يَعُمُّ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ (إلَّا لِضَرُورَةٍ) فَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِالْعَظِيمِ (كَأَنْ قَاتَلُوا بِهِ أَوْ أَحَاطُوا بِنَا) وَاضْطُرِرْنَا إلَى الرَّمْيِ بِذَلِكَ لِدَفْعِهِمْ عَنَّا بِأَنْ خِيفَ اسْتِئْصَالُنَا، فَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ بِغَيْرِهِ كَانْتِقَالِنَا لِمَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ نُقَاتِلْهُمْ بِهِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ تَحَصَّنُوا بِبَلَدٍ أَوْ قَلْعَةٍ وَلَمْ يَتَأَتَّ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ إلَّا بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ لِمَا مَرَّ، وَلِأَنَّ تَرْكَ بَلْدَةٍ أَوْ قَلْعَةٍ بِأَيْدِي طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُتَوَقَّعُ الِاحْتِيَالُ فِي فَتْحِهَا أَقْرَبُ إلَى الصَّلَاحِ مِنْ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ حِصَارُهُمْ بِمَنْعِ طَعَامٍ وَشَرَابٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي أَهْلِ قَلْعَةٍ، وَلَا يَجُوزُ عَقْرُ خُيُولِهِمْ إلَّا إذَا قَاتَلُوا عَلَيْهَا، وَلَا قَطْعُ أَشْجَارِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ، وَيَلْزَمُ الْوَاحِدَ كَمَا قَالَ الْمُتَوَلِّي مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ مُصَابَرَةُ اثْنَيْنِ مِنْ الْبُغَاةِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَصْبِرَ لِكَافِرَيْنِ فَلَا يُوَلِّيَ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يُكْرَهُ لِلْعَادِلِ أَنْ يَعْتَمِدَ قَتْلَ ذِي رَحِمِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَحُكْمُ دَارِ الْبَغْيِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا جَرَى فِيهَا مَا يُوجِبُ إقَامَةَ حَدٍّ أَقَامَهُ الْإِمَامُ إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَلَوْ سَبَى الْمُشْرِكُونَ طَائِفَةً مِنْ الْبُغَاةِ وَقَدَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ.
المتن: وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِكَافِرٍ، وَلَا بِمَنْ يَرَى قَتْلَهُمْ مُدْبِرِينَ، وَلَوْ اسْتَعَانُوا عَلَيْنَا بِأَهْلِ حَرْبٍ وَآمَنُوهُمْ لَمْ يَنْفُذْ أَمَانُهُمْ عَلَيْنَا، وَنَفَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ أَعَانَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِ قِتَالِنَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، أَوْ مُكْرَهِينَ فَلَا، وَكَذَا إنْ قَالُوا ظَنَنَّا جَوَازَهُ أَوْ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيُقَاتَلُونَ كَبُغَاةٍ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ) فِي قِتَالٍ (بِكَافِرٍ) ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ تَسْلِيطُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِمُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ مِنْ مُسْلِمٍ أَنْ يُوَكِّلَ كَافِرًا فِي اسْتِيفَائِهِ، وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَّخِذَ جَلَّادًا كَافِرًا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَوْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ لَكِنَّهُ فِي التَّتِمَّةِ صَرَّحَ بِجَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّهُ الْمُتَّجَهُ (وَلَا) يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا (بِمَنْ يَرَى قَتْلَهُمْ) حَالَ كَوْنِهِمْ (مُدْبِرِينَ) لِعَدَاوَةٍ أَوْ اعْتِقَادٍ كَالْحَنَفِيِّ إبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَوَازِ اسْتِخْلَافِ الشَّافِعِيِّ الْحَنَفِيَّ وَنَحْوِهِ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ يَنْفَرِدُ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَالْمَذْكُورُونَ هُنَا تَحْتَ رَأْيِ الْإِمَامِ فَفِعْلُهُمْ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ، وَيُسْتَثْنَى مَا إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ. قَالَ الشَّيْخَانِ: فَيَجُوزُ بِشَرْطَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُسْنَ إقْدَامٍ وَجَرَاءَةً. الثَّانِي أَنْ يُمْكِنَ دَفْعُهُمْ عَنْهُمْ لَوْ اتَّبَعُوهُمْ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ. زَادَ الْمَاوَرْدِيُّ شَرْطًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا يَقْتُلُوا جَرِيحًا وَأَنْ يَثِقَ بِوَفَائِهِمْ بِذَلِكَ (وَلَوْ اسْتَعَانُوا عَلَيْنَا بِأَهْلِ حَرْبٍ وَآمَنُوهُمْ) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ، وَقَصْرُهَا مَعَ تَشْدِيدِ الْمِيمِ لَحْنٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَكِّيٍّ: أَيْ عَقَدُوا لَهُمْ أَمَانًا لِيُعِينُوهُمْ عَلَيْنَا (لَمْ يَنْفُذْ) بِالْمُعْجَمَةِ (أَمَانُهُمْ عَلَيْنَا) لِأَنَّ الْأَمَانَ لِتَرْكِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى شَرْطِ قِتَالِهِمْ، وَحِينَئِذٍ فَلَنَا غُنْمُ أَمْوَالِهِمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَقَتْلُهُمْ مُدْبِرِينَ وَتَذْفِيفُ جَرِيحِهِمْ، نَعَمْ لَوْ قَالُوا: ظَنَنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا إعَانَةُ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ أَنَّهُمْ الْمُحِقُّونَ وَلَنَا إعَانَةُ الْمُحِقِّ، أَوْ أَنَّهُمْ اسْتَعَانُوا بِنَا عَلَى كُفَّارٍ وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمْ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ الْآتِي فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلَّغْنَاهُمْ الْمَأْمَنَ وَأَجْرَيْنَا عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْبُغَاةِ فَلَا نَسْتَبِيحُهُمْ لِلْأَمَانِ مَعَ عُذْرِهِمْ (وَنَفَذَ عَلَيْهِمْ) أَمَانُهُمْ (فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّهُمْ آمَنُوهُمْ وَأَمِنُوا مِنْهُمْ، وَالثَّانِي الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ أَمَانٌ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. أَمَّا لَوْ آمَنُوهُمْ بِدُونِ شَرْطِ قِتَالِنَا فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، فَإِنْ اسْتَعَانُوا بِهِمْ عَلَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَاتَلُونَا انْتَقَضَ أَمَانُهُمْ حِينَئِذٍ فِي حَقِّنَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ انْتِقَاضُهُ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا. تَنْبِيهٌ: أَشْعَرَ عَطْفُهُ آمَنُوهُمْ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِأَنَّهَا غَيْرُهَا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي، وَاحْتَرَزَ بِأَهْلِ حَرْبٍ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ (وَلَوْ أَعَانَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ) مُخْتَارِينَ (عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِ قِتَالِنَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ) بِذَلِكَ كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِالْقِتَالِ فَصَارَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ انْتِقَاضُ عَهْدِهِمْ مُطْلَقًا حَتَّى فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ قَالَ فِي الْبَيَانِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي انْتِقَاضِهِ الْخِلَافُ فِي أَمَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَوْ أَتْلَفُوا شَيْئًا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ لَمْ يَضْمَنُوهُ (أَوْ مُكْرَهِينَ فَلَا) يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ لِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِمْ: إنَّهُمْ مُكْرَهُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَنْدَنِيجِيّ: إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ كَوْنِهِمْ مُكْرَهِينَ عِنْدَ الْإِمَامِ، هَذَا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمْ الْإِكْرَاهَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ؛ لِأَنَّ أَمَانَ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَقْوَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَافَ الْإِمَامُ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْخِيَانَةَ نَبَذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاحْتَرَزَ بِعَالِمِينَ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ (وَكَذَا إنْ قَالُوا ظَنَنَّا جَوَازَهُ) أَيْ إنَّهُ يَجُوزُ لَنَا إعَانَةُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِنَا عَلَى قِتَالِ كُفَّارٍ، وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْبَسِيطِ، فَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِالظَّنِّ الْمَذْكُورِ (أَوْ) ظَنَنَّا (أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ) فِيمَا فَعَلُوهُ، وَإِنَّ لَنَا إعَانَةَ الْمُحِقِّ فَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ أَيْضًا (عَلَى الْمَذْهَبِ) لِمُوَافَقَتِهِمْ طَائِفَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عُذْرِهِمْ، وَلَا بُدَّ فِي دَعْوَاهُمْ الْجَهْلَ مِنْ إمْكَانِ صِدْقِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلَّا فَلَا تُقْبَلُ، وَزَادَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ مُحِقُّونَ، وَإِنَّ لَهُمْ إعَانَةَ الْمُحِقِّ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُمْ قِتَالُ الْمُحِقِّينَ وَلَا الْمُبْطِلِينَ، وَنَاقَشَ الْوَجِيزُ بِتَرْكِ ذَلِكَ وَأَسْقَطَهُ مِنْ الرَّوْضَةِ كَمَا هُنَا، وَقَدْ قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ، وَفِي قَوْلِهِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ، وَلَوْ ادَّعَوْا ذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَقَلُّوا بِالْقِتَالِ، وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِكَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ فِيهِ الطَّرِيقَانِ، فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ لَكَانَ أَوْلَى. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ وَإِلَّا فَيَنْتَقِضُ قَطْعًا، وَلَوْ قَاتَلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَهْلَ الْبَغْيِ لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا مَنْ يَلْزَمُ الْإِمَامَ مُحَارَبَتُهُ (وَيُقَاتَلُونَ) حَيْثُ قُلْنَا بِعَدَمِ انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ (كَبُغَاةٍ) أَيْ كَقِتَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ حَقَنَ دِمَاءَهُمْ كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقَنَ دِمَاءَ الْبُغَاةِ. أَمَّا إذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ فَحُكْمُهُ مَذْكُورٌ فِي الْجِزْيَةِ. تَنْبِيهٌ: تَشْبِيهُ الْمُصَنِّفِ لَهُمْ بِالْبُغَاةِ فِي الْمُقَاتَلَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يُلْحَقُونَ بِهِمْ فِي نَفْيِ ضَمَانِ مَا يُتْلِفُونَهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا أَسْقَطْنَا الضَّمَانَ عَنْ الْبُغَاةِ لِاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَرَدِّهِمْ إلَى الطَّاعَةِ؛ لِئَلَّا يُنَفِّرَهُمْ الضَّمَانُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ؟ وَجْهَانِ: فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا بِلَا تَرْجِيحٍ، أَرْجَحُهُمَا كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: الْوُجُوبُ. وَقَالَ: إنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَخَرَجَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُؤَمَّنِينَ فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ وَلَا يُقْبَلُ عُذْرُهُمْ إلَّا فِي الْإِكْرَاهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ فِي دَعْوَاهُمْ الْإِكْرَاهَ كَمَا مَرَّ عَنْ الشَّيْخَيْنِ. فَرْعٌ: لَوْ اقْتَتَلَ طَائِفَتَانِ بَاغِيَتَانِ مَنَعَهُمَا الْإِمَامُ فَلَا يُعِينُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَنْعِهِمَا قَاتَلَ أَشَرَّهُمَا بِالْأُخْرَى الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ، وَإِنْ رَجَعَتْ لَمْ يُفَاجِئْ الْأُخْرَى بِالْقِتَالِ حَتَّى يَدْعُوَهَا إلَى الطَّاعَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِاسْتِعَانَتِهِ بِهَا فِي أَمَانِهِ، فَإِنْ اسْتَوَتَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ضَمَّ إلَيْهِ أَقَلَّهُمَا جَمْعًا ثُمَّ أَقْرَبَهُمَا دَارًا ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِيهِمَا وَقَاتَلَ بِالْمَضْمُومَةِ إلَيْهِ مِنْهُمَا الْأُخْرَى غَيْرَ قَاصِدٍ إعَانَتَهَا، بَلْ قَاصِدًا دَفْعَ الْأُخْرَى، وَلَوْ غَزَا الْبُغَاةُ مَعَ الْإِمَامِ مُشْرِكِينَ فَكَأَهْلِ الْعَهْدِ فِي حُكْمِ الْغَنَائِمِ فَيُعْطَى الْقَاتِلُ مِنْهُمْ السَّلَبَ كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَوْ عَاهَدَ الْبُغَاةُ مُشْرِكًا اجْتَنَبْنَاهُ بِأَنْ لَا نَقْصِدَهُ بِمَا نَقْصِدُ بِهِ الْحَرْبِيَّ غَيْرَ الْمُعَاهِدِ. وَلَوْ قَتَلَ عَادِلٌ عَادِلًا فِي الْقِتَالِ. وَقَالَ: ظَنَنْتُهُ بَاغِيًا حَلَفَ وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ لِلْعُذْرِ، وَلَوْ تَعَمَّدَ عَادِلٌ قَتْلَ بَاغٍ أَمَّنَهُ عَادِلٌ وَلَوْ كَانَ الْمُؤَمِّنُ لَهُ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً اُقْتُصَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَمَانِهِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ.
المتن: شَرْطُ الْإِمَامِ كَوْنُهُ مُسْلِمًا مُكَلَّفًا حُرًّا ذَكَرًا قُرَشِيًّا مُجْتَهِدًا شُجَاعًا ذَا رَأْيٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ وَنُطْقٍ.
الشَّرْحُ: وَلَمَّا قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْبَغْيَ هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْقَائِمُ بِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا فَيَالَهَا رُتْبَةً مَا أَسْنَاهَا وَمَرْتَبَةً مَا أَعْلَاهَا احْتَاجَ إلَى تَعْرِيفِهِ فَعَقَدَ لَهُ فَصْلًا، فَقَالَ [ فَصْلٌ ] فِي شُرُوطِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَبَيَانِ انْعِقَادِ طُرُقِ الْإِمَامَةِ. وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالْقَضَاءِ، إذْ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ إمَامٍ يُقِيمُ الدِّينَ وَيَنْصُرُ السُّنَّةَ وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنْ الظَّالِمِ وَيَسْتَوْفِي الْحُقُوقَ وَيَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا، وَقَدَّمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ الْكَلَامَ عَلَى الْإِمَامَةِ عَلَى أَحْكَامِ الْبُغَاةِ، وَمَا فِي الْكِتَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَقَدْ بَدَأَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ: الشُّرُوطُ بِقَوْلِهِ (شَرْطُ الْإِمَامِ) الْأَعْظَمِ هُوَ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَيَعُمُّ كُلَّ شَرْطٍ: أَيْ شُرُوطِهِ حَالَ عَقْدِ الْإِمَامَةِ أَوْ الْعَهْدِ بِهَا، أُمُورٌ: أَحَدُهَا (كَوْنُهُ مُسْلِمًا) لِيُرَاعِيَ مَصْلَحَةَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَلَا تَصِحُّ تَوْلِيَةُ كَافِرٍ وَلَوْ عَلَى كَافِرٍ ثَانِيهَا كَوْنُهُ (مُكَلَّفًا) لِيَلِيَ أَمْرَ النَّاسِ، فَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ بِإِجْمَاعٍ؛ لِأَنَّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي حَضَانَةِ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَلِي أَمْرَ الْأُمَّةِ؟ وَفِي الْحَدِيثِ {نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ إمَارَةِ الصِّبْيَانِ} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثَالِثُهَا كَوْنُهُ (حُرًّا) لِيَكْمُلَ وَيُهَابَ، بِخِلَافِ مَنْ فِيهِ رِقٌّ، وَلِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ غَيْرِهِ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اسْتَمِعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ} فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، رَابِعُهَا كَوْنُهُ (ذَكَرًا) لِيَتَفَرَّغَ وَيَتَمَكَّنَ مِنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، فَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ امْرَأَةٍ، لِمَا فِي الصَّحِيحِ {لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً} وَلَا وِلَايَةُ خُنْثَى وَإِنْ بَانَتْ ذُكُورَتُهُ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي تَوْلِيَةِ الْقَاضِي فَالْإِمَامُ أَوْلَى. خَامِسُهَا كَوْنُهُ (قُرَشِيًّا) لِخَبَرِ النَّسَائِيّ {الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ} وَبِهِ أَخَذَ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. هَذَا عِنْدَ تَيَسُّرِ قُرَشِيٍّ لِلشُّرُوطِ، فَإِنْ عُدِمَ فَمُنْتَسِبٌ إلَى كِنَانَةَ، فَإِنْ عُدِمَ فَرَجُلٌ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ عُدِمَ فَرَجُلٌ جُرْهُمِيٌّ كَمَا فِي التَّتِمَّةِ. وَجُرْهُمُ أَصْلُ الْعَرَبِ، وَمِنْهُمْ تَزَوَّجَ سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ حِينَ أَنْزَلَهُ أَبُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَ مَكَّةَ، فَإِنْ عُدِمَ فَرَجُلٌ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إلَى غَيْرِهِمْ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ هَاشِمِيًّا بِاتِّفَاقٍ، فَإِنَّ الصِّدِّيقَ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. سَادِسُهَا: كَوْنُهُ عَدْلًا، وَلَوْ ذَكَرَهُ بَدَلَ مُسْلِمًا لَعُلِمَ مِنْهُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا. قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: وَإِذَا تَعَذَّرَتْ الْعَدَالَةُ فِي الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ قَدَّمْنَا أَقَلَّهُمْ فِسْقًا. سَابِعُهَا: كَوْنُهُ عَالِمًا (مُجْتَهِدًا) لِيَعْرِفَ الْأَحْكَامَ وَيُعَلِّمَ النَّاسَ وَلَا يَحْتَاجَ إلَى اسْتِفْتَاءِ غَيْرِهِ فِي الْحَوَادِثِ لِأَنَّهُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَالسُّؤَالِ يَخْرُجُ عَنْ رُتْبَةِ الِاسْتِقْلَالِ، ثَامِنُهَا: كَوْنُهُ (شُجَاعًا) بِتَثْلِيثِ الْمُعْجَمَةِ، وَالشَّجَاعَةُ قُوَّةُ الْقَلْبِ عِنْدَ الْبَأْسِ لِيَنْفَرِدَ بِنَفْسِهِ وَيُدَبِّرَ الْجُيُوشَ وَيَقْهَرَ الْأَعْدَاءَ وَيَفْتَحَ الْحُصُونَ. تَاسِعُهَا: كَوْنُهُ (ذَا رَأْيٍ) يُفْضِي إلَى سِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ وَتَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَهُوَ مِلَاكُ الْأُمُورِ. قَالَ الْمُتَنَبِّي: الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِنَفْسٍ مَرَّةً بَلَغَتْ مِنْ الْعَلْيَاءِ كُلَّ مَكَانِ وَلَرُبَّمَا قَهَرَ الْفَتَى أَقْرَانَهُ بِالرَّأْيِ لَا بِتَطَاوُلِ الْأَقْرَانِ وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي سَدَادِ الرَّأْيِ (وَ). عَاشِرُهَا: كَوْنُهُ ذَا (سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَنُطْقٍ) لِيَتَأَتَّى مِنْهُ فَصْلُ الْأُمُورِ، وَلَا يَضُرُّ ثِقَلُ السَّمْعِ وَالتَّمْتَمَةُ وَلَا كَوْنُهُ أَعْشَى الْعَيْنِ لِأَنَّ عَجْزَهُ حَالَ الِاسْتِرَاحَةِ وَيُرْجَى زَوَالُهُ. وَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ فَإِنْ مَنَعَ تَمْيِيزَ الْأَشْخَاصِ مُنِعَ، وَإِلَّا فَلَا تَنْبِيهٌ: فُهِمَ مِنْ اشْتِرَاطِهِ الْبَصَرَ جَوَازُ كَوْنِهِ أَعْوَرَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الرُّويَانِيُّ وَمِنْ اقْتِصَارِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فَقْدُ شَمٍّ وَذَوْقٍ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ نَقْصٌ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ حَرَكَةِ النُّهُوضِ كَالنَّقْصِ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعْصُومًا؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَضُرُّ قَطْعُ ذَكَرٍ وَأُنْثَيَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ تُعْتَبَرُ فِي الدَّوَامِ إلَّا الْعَدَالَةَ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ فِي الْأَصَحِّ وَإِلَّا الْجُنُونَ الْمُتَقَطِّعَ، إذَا كَانَ زَمَنُ الْإِفَاقَةِ أَكْثَرَ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِلَّا فِي قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّوَامِ، إذْ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ وَالْمَرَضِ الَّذِي يُنْسِيهِ الْعُلُومَ.
المتن: وَتَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِالْبَيْعَةِ، وَالْأَصَحُّ بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ، وَشَرْطُهُمْ صِفَةُ الشُّهُودِ وَبِاسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ، فَلَوْ جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ جَمْعٍ فَكَاسْتِخْلَافٍ فَيَرْتَضُونَ أَحَدَهُمْ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ انْعِقَادِ طُرُقِ الْإِمَامَةِ بِقَوْلِهِ (وَتَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ) بِثَلَاثَةِ طُرُقٍ. أَحَدُهَا (بِالْبَيْعَةِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا بَايَعَ الصَّحَابَةُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ الْمُبَايِعِ (وَالْأَصَحُّ) لَا يَتَعَيَّنُ عَدَدٌ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ (بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ) لِأَنَّ الْأَمْرَ يَنْتَظِمُ بِهِمْ وَيَتْبَعُهُمْ سَائِرُ النَّاسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُ، بَلْ لَوْ تَعَلَّقَ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ بِوَاحِدٍ مُطَاعٍ كَفَتْ بَيْعَتُهُ، وَلَزِمَهُ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُتَابَعَةُ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ الْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَقِيلَ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ نِصَابِ الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ مِنْ خَمْسَةٍ غَيْرِ الْبَائِعِ كَأَهْلِ الشُّورَى، وَقِيلَ مِنْ أَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ أَشَدُّ خَطَرًا مِنْ الْجُمُعَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِهَا إشْهَادُ شَاهِدَيْنِ أَوْ لَا؟ حَكَى فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ عَنْ الْأَصْحَابِ الْأَوَّلَ لِئَلَّا يُدْعَى عَقْدٌ سَابِقٌ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ دُونَ النِّكَاحِ، وَقِيلَ إنْ عَقَدَهَا وَاحِدٌ اُشْتُرِطَ الْإِشْهَادُ، أَوْ جَمْعٌ فَلَا، وَجَرَى عَلَى هَذَا ابْنُ الْمُقْرِي (وَشَرْطُهُمْ) أَيْ الْمُبَايِعِينَ (صِفَةُ الشُّهُودِ) مِنْ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَأْتِي. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَايِعُ مُجْتَهِدًا إنْ اتَّحَدَ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ مُجْتَهِدٌ إنْ تَعَدَّدَ مُفَرَّعٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُجْتَهِدِ هُنَا الْمُجْتَهِدُ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ لَا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُطْلَقًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّنْجَانِيُّ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ (وَ) ثَانِيهِمَا يَنْعَقِدُ (بِاسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ) شَخْصًا عَيَّنَهُ فِي حَيَاتِهِ لِيَكُونَ خَلِيفَتَهُ بَعْدَهُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِعَهِدْتُ إلَيْهِ كَمَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلِ عَهْدِهِ بِالْآخِرَةِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يُؤْمِنُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيَتَّقِي فِيهَا الْفَاجِرُ، إنِّي اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنْ بَرَّ وَعَدَلَ فَذَاكَ عِلْمِي بِهِ وَعِلْمِي فِيهِ، وَإِنْ جَارَ وَبَدَّلَ فَلَا عِلْمَ لِي بِالْغَيْبِ، وَالْخَيْرَ أَرَدْتُ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا اكْتَسَبَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ. تَنْبِيهٌ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ جَامِعًا لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِاسْتِخْلَافِ الْجَاهِلِ وَالْفَاسِقِ، وَأَنْ يَقْبَلَ الْخَلِيفَةَ فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ تَرَاخَى عَنْ الِاسْتِخْلَافِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ، وَإِنْ بَحَثَ الْبُلْقِينِيُّ اشْتِرَاطَ الْفَوْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ الْحَيَاةِ رَجَعَ ذَلِكَ إلَى الْإِيصَاءِ وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الْأَصْلَحَ لِلْإِمَامَةِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ وَاحِدٌ وَلَّاهُ، وَلَهُ جَعْلُ الْخِلَافَةِ لِزَيْدٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ لِعَمْرٍو، ثُمَّ بَعْدَهُ لِبَكْرٍ، وَتَنْتَقِلُ عَلَى مَا رَتَّبَ كَمَا رَتَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَرَاءَ جَيْشِ مُؤْتَةَ، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ فَالْخِلَافَةُ لِلثَّانِي، وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي أَيْضًا فَهِيَ لِلثَّالِثِ، وَإِنْ مَاتَ الْخَلِيفَةُ وَبَقِيَ الثَّلَاثَةُ أَحْيَاءً وَانْتَصَبَ الْأَوَّلُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِ الْأَخِيرَيْنِ، لِأَنَّهَا لَمَّا انْتَهَتْ إلَيْهِ صَارَ أَمْلَكَ بِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى أَحَدٍ، فَلَيْسَ لِأَهْلِ الْبَيْعَةِ أَنْ يُبَايِعُوا غَيْرَ الثَّانِي وَيُقَدَّمُ عَهْدُ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِخْلَافِ رِضَا أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ: بَلْ إذَا ظَهَرَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ بَيْعَتُهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ غَيْرِهِ وَلَا مُشَاوَرَةِ أَحَدٍ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْإِمَامُ، (فَلَوْ جَعَلَ) الْإِمَامُ (الْأَمْرَ) فِي الْخِلَافَةِ (شُورَى) هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّشَاوُرِ (بَيْنَ جَمْعٍ فَكَاسْتِخْلَافٍ) حُكْمُهُ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ (فَيَرْتَضُونَ أَحَدَهُمْ) بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ فَيُعَيِّنُونَهُ لِلْخِلَافَةِ كَمَا جَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ: عَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرِ، وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُعَيِّنُوهُ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ خَافُوا تَفَرُّقَ الْأَمْرِ وَانْتِشَارَهُ بَعْدَهُ اسْتَأْذَنُوهُ، وَلَوْ امْتَنَعَ أَهْلُ الشُّورَى مِنْ الِاخْتِيَارِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْهَدْ، وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ الْمَعْهُودُ إلَيْهِ مِنْ الْقَبُولِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ أَوْصَى بِهَا جَازَ كَمَا لَوْ اسْتَخْلَفَ، لَكِنَّ قَبُولَ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ يَخْرُجُ عَنْ الْوِلَايَةِ وَيَتَعَيَّنُ مَنْ اخْتَارَهُ لِلْخِلَافَةِ بِالِاسْتِخْلَافِ أَوْ الْوَصِيَّةِ مَعَ الْقَبُولِ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَهُ، وَإِنْ اسْتَعْفَى الْخَلِيفَةُ أَوْ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ لَمْ يَنْعَزِلْ حَتَّى يُعْفَى وَيُوجَدَ غَيْرُهُ، فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ جَازَ اسْتِعْفَاؤُهُ وَإِعْفَاؤُهُ وَخَرَجَ مِنْ الْعَهْدِ بِاسْتِجْمَاعِهِمَا، وَإِلَّا امْتَنَعَ وَبَقِيَ الْعَهْدُ لَازِمًا، وَيَجُوزُ الْعَهْدُ إلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ كَمَا يَجُوزُ إلَى غَيْرِهِمَا كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ وَابْنُ الْمُقْرِي، وَقِيلَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ كَالتَّزْكِيَةِ وَالْحُكْمِ، وَقِيلَ: تَجُوزُ لِلْوَالِدِ دُونَ الْوَلَدِ، لِشِدَّةِ الْمَيْلِ إلَيْهِ.
المتن: وَبِاسْتِيلَاءِ جَامِعِ الشُّرُوطِ، وَكَذَا فَاسِقٌ وَجَاهِلٌ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ:
فَرْعٌ: لَوْ صَلَحَ لِلْإِمَامَةِ وَاحِدٌ فَقَطْ تَعَيَّنَ، أَوْ اثْنَانِ اُسْتُحِبَّ لِأَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ تَقْدِيمُ أَسَنِّهِمَا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ إنْ كَثُرَتْ الْحُرُوبُ كَأَنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْفَسَادِ أَوْ الْبُغَاةِ فَالْأَشْجَعُ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ إلَى زِيَادَةِ الشَّجَاعَةِ، أَوْ كَثُرَتْ الْبِدَعُ فَالْأَعْلَمُ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ إلَى زِيَادَةِ الْعِلْمِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَقُرِعَ وَإِنْ لَمْ يَتَنَازَعَا كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الْمُقْرِي لِأَنَّ فَيْأَهُمَا لِلْمُسْلِمِينَ لَا لَهُمَا لِعَدَمِ التَّرْجِيحِ، وَقِيلَ يُقَدِّمُ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ مَنْ شَاءُوا بِلَا قُرْعَةٍ، وَلَوْ تَنَازَعَاهَا لَمْ يَقْدَحْ فِيهِمَا تَنَازُعُهَا؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا لَيْسَ مَكْرُوهًا (وَ) ثَالِثُهَا (بِاسْتِيلَاءِ) شَخْصٍ مُتَغَلِّبٍ عَلَى الْإِمَامَةِ (جَامِعِ الشُّرُوطِ) الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى الْمُلْكِ بِقَهْرٍ وَغَلَبَةٍ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ لَيَنْتَظِمَ شَمْلُ الْمُسْلِمِينَ. أَمَّا الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْحَيِّ فَإِنْ كَانَ الْحَيُّ مُتَغَلِّبًا انْعَقَدَتْ إمَامَةُ الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا بِبَيْعَةٍ أَوْ عَهْدٍ لَمْ تَنْعَقِدْ إمَامَةُ الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهِ (وَكَذَا فَاسِقٌ وَجَاهِلٌ) تَنْعَقِدُ إمَامَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ وُجُودِ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ بِالِاسْتِيلَاءِ (فِي الْأَصَحِّ) وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِذَلِكَ لِمَا مَرَّ. وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِفَقْدِ الشُّرُوطِ. تَنْبِيهٌ: كَلَامُهُ يُفْهِمُ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا يَجْرِي فِي حَالِ اجْتِمَاعِ الْفِسْقِ وَالْجَهْلِ، لَكِنَّ عِبَارَةَ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا مُشْعِرَةٌ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ عِنْدَ انْفِرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ، فَإِنْ جَعَلْتُ الْوَاوَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى أَوْ كَمَا قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَهُ فَلَا مُخَالَفَةَ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بِالْفِسْقِ وَالْجَهْلِ، بَلْ سَائِرُ الشُّرُوطِ إذَا فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا كَذَلِكَ كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ . قَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَلِيَ الْأَكْنَانَ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ حِينَ مَاتَ أَبُوهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَضَعُوا التَّاجَ عَلَى بَطْنِ أُمِّهِ وَعَقَدُوا لِحَمْلِهَا اللِّوَاءَ فَوَلَدَتْ ذَكَرًا فَمَلَكَهُمْ إلَى أَنْ مَاتَ، نَعَمْ الْكَافِرُ إذَا تَغَلَّبَ لَا تَنْعَقِدُ إمَامَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَقَوْلِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ: وَلَوْ اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى إقْلِيمٍ فَوَلَّوْا الْقَضَاءَ رَجُلًا مُسْلِمًا، فَاَلَّذِي يَظْهَرُ انْعِقَادُهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ اُبْتُلِيَ النَّاسُ بِوِلَايَةِ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ يَرْجِعُ لِلْعُقَلَاءِ أَوْ امْرَأَةٍ هَلْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمَا لِعَامٍّ فِيمَا يُوَافِقُ الْحَقَّ كَتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ وَالْوُلَاةِ؟ فِيهِ وَقْفَةٌ ا هـ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ وَقْفَةٌ فِي ذَلِكَ فَالْكَافِرُ أَوْلَى.
المتن: قُلْتُ: لَوْ ادَّعَى دَفْعَ زَكَاةٍ إلَى الْبُغَاةِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، أَوْ جِزْيَةٍ فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَا خَرَاجٍ فِي الْأَصَحِّ، وَيُصَدَّقُ فِي حَدٍّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ: فُرُوعٌ: تَجِبُ طَاعَةُ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ جَائِرًا فِيمَا يَجُوزُ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِخَبَرِ {اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعُ الْأَطْرَافِ} وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نَصْبِهِ اتِّحَادُ الْكَلِمَةِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ، وَتَجِبُ نَصِيحَتُهُ لِلرَّعِيَّةِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِإِمَامَيْنِ فَأَكْثَر وَلَوْ بِأَقَالِيمَ وَلَوْ تَبَاعَدَتْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَالِ الرَّأْيِ وَتَفَرُّقِ الشَّمْلِ، فَإِنْ عُقِدَتْ لِاثْنَيْنِ مَعًا بَطَلَتَا أَوْ مُرَتَّبًا انْعَقَدَتْ لِلسَّابِقِ كَمَا فِي النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي وَمُبَايِعُوهُ إنْ عَلِمُوا بِبَيْعَةِ السَّابِقِ لِارْتِكَابِهِمْ مُحَرَّمًا. فَإِنْ قِيلَ وَرَدَ: فِي مُسْلِمٍ {إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا} فَكَيْفَ يُقَالُ بِالتَّعْزِيرِ فَقَطْ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تُطِيعُوهُ فَيَكُونُ كَمَنْ قُتِلَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ إنْ أَصَرَّ فَهُوَ بَاغٍ يُقَاتَلُ، فَإِنْ عُلِمَ سَبْقٌ وَجَهْلٌ بَطَلَ الْعَقْدَانِ كَمَا مَرَّ نَظِيرُهُ مِنْ الْجُمُعَةِ وَالنِّكَاحِ، وَإِنْ عَلِمَ السَّابِقُ ثُمَّ نَسِيَ وَقَفَ الْأَمْرُ رَجَاءَ الِانْكِشَافِ، فَإِنْ أَضَرَّ الْوَقْفُ بِالْمُسْلِمِينَ عُقِدَ لِأَحَدِهِمَا لَا لِغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ عَقْدَهَا لَهُمَا أَوْجَبَ صَرْفُهَا عَنْ غَيْرِهِمَا وَإِنْ بَطَلَ عَقْدَاهُمَا بِالْإِضْرَارِ، وَخَالَفَ الْبُلْقِينِيُّ الشَّيْخَيْنِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ بِجَوَازِ عَقْدِهَا لِغَيْرِهِمَا، وَالْحَقُّ فِي الْإِمَامَةِ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لَهُمَا، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى أَحَدِهِمَا السَّبَقَ وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ بَطَلَ حَقُّهُ وَلَا يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْآخَرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْإِمَامِ خَلِيفَةً، وَخَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْبَغَوِيّ: وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَخْلَفُ مَنْ يَغِيبُ وَيَمُوتُ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَلَا يُسَمَّى أَحَدٌ خَلِيفَةَ اللَّهِ بَعْدَ آدَمَ وَدَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَعَنْ ابْنِ مُلَيْكَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ فَقَالَ أَنَا خَلِيفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا رَاضٍ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ خَلْعُ الْإِمَامِ مَا لَمْ تَخْتَلَّ الصِّفَاتُ فِيهِ، وَلَا يَصِيرُ الشَّخْصُ إمَامًا بِتَفَرُّدِهِ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ فِي وَقْتِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الطُّرُقِ كَمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ يَصِيرُ عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ، حَكَاهُ الْقَمُولِيُّ. قَالَ: وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَلْحَقَ الْقَاضِيَ بِالْإِمَامِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ: لَوْ شَغَرَ الزَّمَانُ عَنْ الْإِمَامِ انْتَقَلَتْ أَحْكَامُهُ إلَى أَعْلَمِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ (قُلْتُ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ فِيمَا لَوْ عَادَ الْبَلَدُ مِنْ الْبُغَاةِ إلَيْنَا (لَوْ ادَّعَى) بَعْضُ أَهْلِهِ (دَفْعَ زَكَاةٍ إلَى الْبُغَاةِ صُدِّقَ) بِلَا يَمِينٍ إنْ لَمْ يُتَّهَمْ وَ (بِيَمِينِهِ) إنْ اُتُّهِمَ لِبِنَائِهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَالْمُسْلِمُ مُؤْتَمَنٌ فِي أَمْرِ دِينِهِ. تَنْبِيهٌ: الْيَمِينُ هُنَا مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ فِي الزَّكَاةِ وَإِنْ صَحَّحَ فِي تَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ هُنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَجَرَى عَلَيْهِ الدَّمِيرِيُّ (أَوْ) ذِمِّيٌّ ادَّعَى دَفْعَ (جِزْيَةٍ فَلَا) يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ (عَلَى الصَّحِيحِ) لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ السَّكَنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ دَفْعَ الْأُجْرَةِ. وَالثَّانِي يُصَدَّقُ كَالْمُزَكِّي، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِلْعَدَاوَةِ الظَّاهِرَةِ (وَكَذَا خَرَاجٌ) لِأَرْضٍ دَفَعَهُ الْمُسْلِمُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ لِقَاضِي الْبُغَاةِ لَا يُصَدَّقُ فِي دَفْعِهِ (فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ. وَالثَّانِي يُصَدَّقُ كَالزَّكَاةِ. أَمَّا الْكَافِرُ إذَا ادَّعَى دَفْعَ الْخَرَاجِ فَلَا يُصَدَّقُ جَزْمًا (وَيُصَدَّقُ) الشَّخْصُ (فِي) إقَامَةِ (حَدٍّ) أَنَّهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: بِلَا يَمِينٍ، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ (إلَّا أَنْ يَثْبُتَ) الْحَدُّ (بِبَيِّنَةٍ، وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَا أَثَرَ لَهُ) أَيْ الْحَدِّ (فِي الْبَدَنِ) فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إقَامَتِهِ وَلَا قَرِينَةَ تَدْفَعُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ ثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالْحَدِّ لَوْ رَجَعَ قَبْلَ رُجُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ بَقَاءَ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ. تَنْبِيهٌ: كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ. خَاتِمَةٌ: لَا يَنْعَزِلُ إمَامٌ أَسَرَهُ كُفَّارٌ أَوْ بُغَاةٌ لَهُمْ إمَامٌ إلَّا إنْ وَقَعَ الْيَأْسُ وَلَمْ يَعُدْ إلَى إمَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبُغَاةِ إمَامٌ لَمْ يَنْعَزِلْ الْإِمَامُ الْمَأْسُورُ، وَإِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ خَلَاصِهِ وَيَسْتَنِيبُ عَنْ نَفْسِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ وَإِلَّا اُسْتُنِيبَ عَنْهُ، فَلَوْ خَلَعَ الْإِمَامُ نَفْسَهُ أَوْ مَاتَ لَمْ يَصِرْ الْمُسْتَنَابُ إمَامًا. قَالَ الدَّمِيرِيُّ: كَانَ الْمُعْتَصِمُ بِاَللَّهِ يُدْعَى الْمُثَمَّنَ، لِأَنَّهُ كَانَ ثَامِنَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَةٍ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ، وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّامِنُ مِنْ السَّنَةِ، وَفَتَحَ ثَمَانِ فُتُوحَاتٍ، وَوَقَفَ ثَمَانِيَةُ مُلُوكٍ وَثَمَانِيَةُ أَعْدَاءٍ بِبَابِهِ، وَعَاشَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثَمَانِ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. وَخَلَّفَ ثَمَانِ بَنِينَ، وَثَمَانِ بَنَاتٍ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ فَرَسٍ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ بَعِيرٍ وَبَغْلٍ وَدَابَّةٍ: وَثَمَانِيَةَ آلَافِ خَيْمَةٍ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ عَبْدٍ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ أَمَةٍ، وَثَمَانِيَةَ قُصُورٍ، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَحْرُفٍ، وَكَانَتْ غِلْمَانُهُ الْأَتْرَاكُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا.
المتن: هِيَ: قَطْعُ الْإِسْلَامِ بِنِيَّةِ أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ أَوْ فِعْلٍ، سَوَاءٌ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً أَوْ عِنَادًا أَوْ اعْتِقَادًا.
الشَّرْحُ: كِتَابُ الرِّدَّةِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا (هِيَ) لُغَةً الرُّجُوعُ عَنْ الشَّيْءِ إلَى غَيْرِهِ، وَهِيَ أَفْحَشُ الْكُفْرِ وَأَغْلَظُهُ حُكْمًا، مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ إنْ اتَّصَلَتْ بِالْمَوْتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} الْآيَةَ، وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ حَجَّهُ الَّذِي حَجَّهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ وَجَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، وَنَقَلَ فِي الْمُهِمَّاتِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُبُوطَ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ، وَقَالَ: إنَّهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَفِيسَةٌ مُهِمَّةٌ غَفَلَ عَنْهَا الْأَصْحَابُ ا هـ. وَلَيْسَ فِي هَذَا مُخَالَفَةٌ لِكَلَامِهِمْ، فَإِنَّ كَلَامَهُمْ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُحْبِطُ نَفْسَ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَأْخَذَ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي لُزُومِ الْحَجِّ بَعْدَ الرِّدَّةِ حُبُوطَ الْعَمَلِ وَكَلَامُ النَّصِّ فِي حُبُوطِ ثَوَابِ الْعَمَلِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ ثَوَابِ الْعَمَلِ سُقُوطُ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ صَحِيحَةٌ مُسْقِطَةٌ لِلْقَضَاءِ مَعَ كَوْنِهَا لَا ثَوَابَ فِيهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَشَرْعًا (قَطْعُ) اسْتِمْرَارِ (الْإِسْلَامِ) وَدَوَامِهِ، وَيَحْصُلُ قَطْعُهُ بِأُمُورٍ (بِنِيَّةِ) كُفْرٍ، وَذِكْرُ النِّيَّةِ مَزِيدٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ لِيَدْخُلَ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ حَالًا، لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّعْبِيرُ بِالْعَزْمِ، فَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّ النِّيَّةَ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، فَإِنْ قَصَدَهُ وَتَرَاخَى عَنْهُ فَهُوَ عَزْمٌ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ التَّعْبِيرُ بِالْعَزْمِ (أَوْ) قَطْعِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ (قَوْلِ كُفْرٍ أَوْ فِعْلٍ) مُكَفِّرٍ فَقَوْلُهُ " قَطْعُ " جِنْسٌ يَشْمَلُ قَطْعَ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَعَانِي، وَقَوْلُهُ: " الْإِسْلَامِ " فَصْلٌ يَخْرُجُ بِهِ قَطْعُ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا، وَقَوْلُهُ: بِنِيَّةِ إلَخْ أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَكُونُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الرِّدَّةَ تَحْصُلُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَطْعٌ كَمَا لَوْ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ يَبْقَى فَإِنَّهُ رِدَّةٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَكَذَا مَنْ عَلَّقَ بَيْنَ مُرْتَدِّينَ فَإِنَّهُ مُرْتَدٌّ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَهَذَا الثَّانِي غَيْرُ وَارِدٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُرْتَدِّ حُكْمًا وَلَا يُرَدُّ الْكَافِرُ الْمُنْتَقِلُ مِنْ دِينٍ إلَى آخَرَ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُرْتَدًّا شَرْعًا، وَإِنَّمَا يُعْطَى حُكْمَ الْمُرْتَدِّ. ثُمَّ قَسَّمَ الْقَوْلَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ بِقَوْلِهِ (سَوَاءٌ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً أَوْ عِنَادًا أَوْ اعْتِقَادًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ} وَكَانَ الْأَوْلَى تَأْخِيرَ الْقَوْلِ فِي كَلَامِهِ عَنْ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ التَّقْسِيمَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى الْكُفْرِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُرْتَدًّا، وَكَذَا الْكَلِمَاتُ الصَّادِرَةُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ، فَفِي أَمَالِي الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا قَالَ: أَنَا اللَّهُ عُزِّرَ التَّعْزِيرَ الشَّرْعِيَّ، وَلَا يُنَافِي الْوِلَايَةَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ، وَيُنَافِي هَذَا قَوْلَ الْقُشَيْرِيِّ: مِنْ شَرْطِ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا، كَمَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا، فَكُلُّ مَنْ كَانَ لِلشَّرْعِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ فَهُوَ مَغْرُورٌ مُخَادِعٌ، فَالْوَلِيُّ الَّذِي تَوَالَتْ أَفْعَالُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَنْ الْحُسَيْنِ الْحَلَّاجِ لِمَا قَالَ: أَنَا الْحَقُّ فَتَوَقَّفَ فِيهِ وَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ خَفِيَ عَلَيَّ أَمْرُهُ وَمَا أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا، وَأَفْتَى بِكُفْرِهِ بِذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو عَمْرٍو وَالْجُنَيْدُ وَفُقَهَاءُ عَصْرِهِ، وَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِضَرْبِهِ أَلْفَ سَوْطٍ، فَإِنْ مَاتَ، وَإِلَّا ضُرِبَ أَلْفًا أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ ثُمَّ يُضْرَبُ عُنُقُهُ، فَفُعِلَ بِهِ جَمِيعَ ذَلِكَ لِسِتٍّ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَالنَّاسُ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ فِي أَمْرِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي تَعْظِيمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُهُ لِأَنَّهُ قُتِلَ بِسَيْفِ الشَّرْعِ، وَجَرَى ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِغَيْرِهِ عَلَى كُفْرِ مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِ طَائِفَةِ ابْنِ عَرَبِيٍّ الَّذِينَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ الِاتِّحَادُ وَهُوَ بِحَسَبِ مَا فَهِمُوهُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ، وَلَكِنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ جَارٍ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ، إذَا اللَّفْظُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيِّ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، وَالْمُعْتَقِدُ مِنْهُمْ لِمَعْنَاهُ مُعْتَقِدٌ لِمَعْنًى صَحِيحٍ. وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ ظَاهِرَهُ مِنْ جَهَلَةِ الصُّوفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ صَارَ كَافِرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا أَيْضًا فِي كِتَابِ السِّيَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَخَرَجَ أَيْضًا مَا إذَا حَكَى الشَّاهِدُ لَفْظَ الْكُفْرِ، لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ ذَكَرَ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حِكَايَتُهُ إلَّا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلْيُتَفَطَّنْ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَوْ قَوْلُ كُفْرٍ فِيهِ دَوْرٌ، فَإِنَّ الرِّدَّةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكُفْرِ فَكَيْفَ يَقُولُ أَوْ قَوْلُ كُفْرٍ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِي الْحَدِّ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ.
المتن: فَمَنْ نَفَى الصَّانِعَ
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ بِنِيَّةِ كُفْرٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لِيَكُونَ حَذْفَ لَفْظَةِ كُفْرٍ مِنْ الْآخَر لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَتَعْبِيرُهُ لَا يَتَنَاوَلُ كُفْرَ الْمُنَافِقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ إسْلَامٌ صَحِيحٌ (فَمَنْ نَفَى) أَيْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهُمْ الدَّهْرِيَّةُ الزَّاعِمُونَ أَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا كَذَلِكَ بِلَا صَانِعٍ. فَإِنْ قِيلَ: إطْلَاقُ (الصَّانِعِ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَرِدْ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُجَوِّزِينَ الْإِطْلَاقَ بِالِاشْتِقَاقِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ:. أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنَّ اللَّهَ صَنَعَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ} رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي أَوَائِلِ الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَقَالَ: إنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ أَوْ نَفَى مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاعِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَوْ أَثْبَتَ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ كَحُدُوثِهِ أَوْ قِدَمِ الْعَالَمِ كَمَا قَالَهُ الْفَلَاسِفَةُ قَالَ الْمُتَوَلِّي: أَوْ أَثْبَتَ لَهُ لَوْنًا، أَوْ اتِّصَالًا، أَوْ انْفِصَالًا. تَنْبِيهٌ: اُخْتُلِفَ فِي كُفْرِ الْمُجَسِّمَةِ. قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: الْمَشْهُورُ عَدَمُ كُفْرِهِمْ، وَجَزَمَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي صِفَةِ الْأَئِمَّةِ بِكُفْرِهِمْ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي خَادِمِهِ: وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَنْ جَسَّمَ تَجْسِيمًا صَرِيحًا، وَكَأَنَّهُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ صَرِيحًا عَمَّنْ يُثْبِتُ الْجِهَةَ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ، وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: إنَّهُ الْأَصَحُّ، وَقَالَ فِي قَوَاعِدِهِ: إنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفَاتِ ا هـ. وَأُوِّلَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ بِتَكْفِيرِ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ لَا الْإِخْرَاجُ عَنْ الْمِلَّةِ، قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ، لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ وَمُوَارَثَتِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ كَفَّرَ أَصْحَابُنَا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ فَعَّالَةٌ، فَهَلَّا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ كَذَلِكَ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَوَاكِبِ اعْتَقَدَ فِيهَا مَا يَعْتَقِدُ فِي الْإِلَهِ مِنْ أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا بِخِلَافِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ فَقَطْ.
المتن: أَوْ الرُّسُلَ أَوْ كَذَّبَ رَسُولًا
الشَّرْحُ: (أَوْ) نَفَى (الرُّسُلَ) بِأَنْ قَالَ: لَمْ يُرْسِلْهُمْ اللَّهُ، أَوْ نَفَى نُبُوَّةَ نَبِيٍّ، أَوْ ادَّعَى نُبُوَّةً بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَدَّقَ مُدَّعِيهَا أَوْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ أَوْ أَمْرَدُ أَوْ غَيْرُ قُرَشِيٍّ، أَوْ قَالَ النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ أَوْ تُنَالُ رُتْبَتُهَا بِصَفَاءِ الْقُلُوبِ أَوْ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يَدَّعِ نُبُوَّةً (أَوْ كَذَّبَ رَسُولًا) أَوْ نَبِيًّا أَوْ سَبَّهُ أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ أَوْ بِاسْمِهِ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ أَمْرِهِ أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ، أَوْ جَحَدَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ مُجْمَعًا عَلَى ثُبُوتِهَا، أَوْ زَادَ فِيهِ آيَةً مُعْتَقِدًا أَنَّهَا مِنْهُ، أَوْ اسْتَخَفَّ بِسُنَّةٍ كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَةَ، فَقَالَ لَيْسَ هَذَا بِأَدَبٍ أَوْ قِيلَ لَهُ قَلِّمْ أَظْفَارَكَ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ، فَقَالَ لَا أَفْعَلُ وَإِنْ كَانَ سُنَّةً وَقَصَدَ الِاسْتِهْزَاءَ بِذَلِكَ كَمَا صَوَّبَهُ الْمُصَنِّفُ، أَوْ قَالَ: لَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِكَذَا لَمْ أَفْعَلْ، أَوْ لَوْ جَعَلَ اللَّهُ الْقِبْلَةَ هُنَا لَمْ أُصَلِّ إلَيْهَا، أَوْ لَوْ اتَّخَذَ اللَّهُ فُلَانًا نَبِيًّا لَمْ أُصَدِّقْهُ، أَوْ لَوْ شَهِدَ عِنْدِي نَبِيٌّ بِكَذَا أَوْ مَلَكٌ لَمْ أَقْبَلْهُ، أَوْ قَالَ: إنْ كَانَ مَا قَالَهُ الْأَنْبِيَاءُ صِدْقًا نَجَوْنَا، أَوْ لَا أَدْرِي النَّبِيُّ إنْسِيٌّ أَوْ جِنِّيٌّ، أَوْ قَالَ: إنَّهُ جِنٌّ، أَوْ صَغَّرَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ احْتِقَارًا، أَوْ صَغَّرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْإِيمَانُ احْتِقَارًا. أَوْ قَالَ لِمَنْ حَوْقَلَ لَا حَوْلَ لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، أَوْ لَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَيَّ مَعَ مَرَضِي هَذَا لَظَلَمَنِي، أَوْ قَالَ الْمَظْلُومُ هَذَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ فَقَالَ الظَّالِمُ: أَنَا أَفْعَلُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِهِ، أَوْ أَشَارَ بِالْكُفْرِ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ عَلَى كَافِرٍ أَرَادَ الْإِسْلَامَ بِأَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِاسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ لَمْ يُلَقَّنْ الْإِسْلَامَ طَالِبُهُ مِنْهُ، أَوْ اسْتَمْهَلَ مِنْهُ تَلْقِينَهُ كَأَنْ قَالَ لَهُ: اصْبِرْ سَاعَةً لِأَنَّهُ اخْتَارَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ، أَوْ كَفَّرَ مُسْلِمًا بِلَا تَأْوِيلٍ لِلْكُفْرِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ وَإِنْ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إنَّ الْخَبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، وَفِي الْأَذْكَارِ: يَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُغَلَّظًا، أَوْ نُودِيَ بِيَا يَهُودِيُّ أَوْ نَحْوِهِ فَأَجَابَ وَإِنْ نُظِرَ فِيهِ فِي الرَّوْضَةِ أَوْ قِيلَ لَهُ أَلَسْتَ مُسْلِمًا، فَقَالَ لَا، أَوْ سَمَّى اللَّهَ عَلَى شُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ زِنًا اسْتِخْفَافًا بِاسْمِهِ تَعَالَى، أَوْ قَالَ لَا أَخَافُ الْقِيَامَةَ وَقَالَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ، أَوْ كَذَّبَ الْمُؤَذِّنَ فِي أَذَانِهِ كَأَنْ قَالَ لَهُ تَكْذِبُ، أَوْ قَالَ: قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ خَيْرٌ مِنْ الْعِلْمِ، أَوْ قَالَ لِمَنْ قَالَ أَوْدَعْتُ اللَّهَ مَالِي أَوْدَعْتَهُ مَنْ لَا يَتْبَعُ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ وَقَالَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ، أَوْ قَالَ تَوَفَّنِي إنْ شِئْتَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى، أَوْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ، أَوْ قَالَ: أَخَذْتَ مَالِي وَوَلَدِي فَمَاذَا تَصْنَعُ أَيْضًا؟ أَوْ مَاذَا بَقِيَ لَمْ تَفْعَلْهُ؟ أَوْ أَعْطَى مَنْ أَسْلَمَ مَالًا، فَقَالَ مُسْلِمٌ: لَيْتَنِي كُنْتُ كَافِرًا فَأُسْلِمَ فَأُعْطَى مَالًا، أَوْ قَالَ مُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ مَثَلًا: الْيَهُودُ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ يُنْصِفُونَ مُعَلِّمِي صِبْيَانِهِمْ.
المتن: أَوْ حَلَّلَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ كَالزِّنَا وَعَكْسَهُ، أَوْ نَفَى وُجُوبَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ أَوْ عَكْسَهُ.
الشَّرْحُ: (أَوْ حَلَّلَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ كَالزِّنَا) وَاللِّوَاطِ وَالظُّلْمِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْ هَذَا لَوْ اعْتَقَدَ حَقِّيَّةِ الْمَكْسِ، وَيَحْرُمُ تَسْمِيَتُهُ حَقًّا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ الْإِمَامُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ، وَنَحْنُ لَا نُكَفِّرُ مَنْ رَدَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا نُبْدِعُهُ وَنُضَلِّلُهُ. وَأَجَابَ الزَّنْجَانِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ لَا يَكْفُرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ فَقَطْ بَلْ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا ثَبَتَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِجْمَاعُ وَالنَّصُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْحَقُّ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْإِجْمَاعِيَّةَ إنْ صَحِبَهَا التَّوَاتُرُ كَالصَّلَاةِ كَفَرَ مُنْكِرُهَا لِمُخَالَفَةِ التَّوَاتُرِ لَا لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهَا التَّوَاتُرُ لَا يَكْفُرُ (وَعَكْسُهُ) بِأَنْ حَرَّمَ حَلَالًا بِالْإِجْمَاعِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ (أَوْ نَفَى وُجُوبَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ) كَأَنْ نَفَى وُجُوبَ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (أَوْ عَكْسَهُ) بِأَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ وُجُوبِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ.
المتن: أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ غَدًا أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ كَفَرَ.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: لَوْ قَالَ أَوْ نَفَى مَشْرُوعِيَّةَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَشَمِلَ إنْكَارَ الْمُجْمَعِ عَلَى نَدْبِهِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْبَغَوِيّ فِي تَعْلِيقِهِ بِتَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ مُجْمَعًا عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ مِنْ السُّنَنِ كَالرَّوَاتِبِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَهُوَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِ التَّوَاتُرِ، وَيَتَعَيَّنُ فِيمَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ، بِخِلَافِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ: كَاسْتِحْقَاقِ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ فَلَا يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ لِلْعُذْرِ بَلْ يُعَرَّفُ الصَّوَابَ لِيَعْتَقِدَهُ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْرِفُهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ إذَا جَحَدَهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَإِلَّا فَلَا يُكَفَّرُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَرِّمُ وَالنَّافِي وَالْمُثْبِتُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ كَمَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنْ الْعُلَمَاءِ (أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ غَدًا) مَثَلًا أَوْ عَلَّقَهُ عَلَى شَيْءٍ (أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ) حَالًّا بِطَرَيَانِ شَكٍّ يُنَاقِضُ جَزْمَ النِّيَّةِ بِالْإِسْلَامِ، وَهَذَا وَارِدٌ عَلَى الْحَدِّ كَمَا مَرَّ، إذْ لَا قَطْعَ فِيهِ (كَفَرَ) جَوَابٌ لِجَمِيعِ مَا مَرَّ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ لَمْ يُنَاقِضْ جَزْمَ النِّيَّةِ بِهِ كَاَلَّذِي يَجْرِي فِي الْكَنِّ فَهُوَ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْمُوَسْوَسُ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ: بِكَذِبَ رَسُولًا عَمَّا لَوْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُكَفَّرُ خِلَافًا لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ: يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَيُرَاقُ دَمُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ زَلَّةٌ، وَلَمْ أَرَ مَا قَالَهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ وَلَا يَكْفُرُ.
المتن: وَالْفِعْلُ الْمُكَفِّرُ مَا تَعَمَّدَهُ اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّينِ أَوْ جُحُودًا لَهُ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ بِقَاذُورَةٍ وَسُجُودٍ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ.
الشَّرْحُ: (وَالْفِعْلُ الْمُكَفِّرُ مَا تَعَمَّدَهُ) صَاحِبُهُ (اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّينِ أَوْ جُحُودًا لَهُ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ) وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ (بِقَاذُورَةٍ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْكَلَامِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُتَكَلِّمِ، وَيَلْتَحِقُ بِالْمُصْحَفِ كُتُبُ الْحَدِيثِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: أَوْ أَوْرَاقُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ (وَسُجُودٍ لِصَنَمٍ) قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي فِي هَذَا: وَفِي إلْقَاءِ الْمُصْحَفِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا - أَيْ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ وَكَأَنَّهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا احْتَرَزَ بِهِ فِي سُجُودِ الصَّنَمِ عَمَّا لَوْ سَجَدَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَكْفُرُ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ النَّصِّ وَإِنْ زَعَمَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمَشْهُورَ خِلَافُهُ، وَفِي إلْقَاءِ الْمُصْحَفِ عَمَّا لَوْ أَلْقَاهُ فِي قَذَرٍ خِيفَةَ أَخْذِ الْكَافِرِ لَهُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ (أَوْ) سُجُودٍ لِ (شَمْسٍ) أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَكَذَا السِّحْرُ الَّذِي فِيهِ عِبَادَةُ كَوْكَبٍ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا. تَنْبِيهٌ:
يُكَفَّرُ مَنْ نَسَبَ الْأُمَّةَ إلَى الضَّلَالِ أَوْ الصَّحَابَةَ إلَى الْكُفْرِ أَوْ أَنْكَرَ إعْجَازَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ أَنْكَرَ الدَّلَالَةَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي خَلْقِهِمَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْكَرَ بَعْثَ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُمْ الْأَصْلِيَّةَ وَيُعِيدَ الْأَرْوَاحَ إلَيْهَا أَوْ أَنْكَرَ الْجَنَّةَ أَوْ النَّارَ أَوْ الْحِسَابَ أَوْ الثَّوَابَ أَوْ الْعِقَابَ أَوْ أَقَرَّ بِهَا، لَكِنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ مَعَانِيهَا، أَوْ قَالَ إنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. وَأَكَلْتُ مِنْ ثِمَارِهَا وَعَانَقْتُ حُورَهَا، أَوْ قَالَ: الْأَئِمَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، هَذَا إنْ عَلِمَ مَعْنَى مَا قَالَهُ لَا إنْ جَهِلَ ذَلِكَ لِقُرْبِ إسْلَامِهِ أَوْ بُعْدِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكْفُرُ لِعُذْرِهِ كَمَا مَرَّ، وَلَا إنْ قَالَ مُسْلِمٌ لِمُسْلِمٍ: سَلَبَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ، أَوْ لِكَافِرٍ: لَا رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ دُعَاءٍ بِتَشْدِيدِ الْأَمْرِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، وَلَا إنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَشَرِبَ مَعَهُمْ الْخَمْرَ وَأَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَلَا إنْ قَالَ الطَّالِبُ لِيَمِينِ خَصْمِهِ وَقَدْ أَرَادَ الْخَصْمُ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا أُرِيدُ الْحَلِفَ بِهِ بَلْ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ، وَلَا إنْ قَالَ رُؤْيَتِي إيَّاكَ كَرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَلَا إنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ضَرْبِ الدُّفِّ أَوْ الْقَصَبِ، أَوْ قِيلَ لَهُ تَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَوْ خَرَجَ لِسَفَرٍ فَصَاحَ الْعَقْعَقُ فَرَجَعَ، وَلَا إنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ مُتَعَمِّدًا أَوْ بِنَجِسٍ أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ، وَلَا إنْ تَمَنَّى حِلَّ مَا كَانَ حَلَالًا فِي زَمَنٍ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ كَأَنْ تَمَنَّى أَنْ لَا يُحَرِّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ أَوْ الْمُنَاكَحَةَ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ أَوْ الظُّلْمَ أَوْ الزِّنَا أَوْ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا إنْ شَدَّ الزُّنَّارَ عَلَى وَسَطِهِ أَوْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِتَخْلِيصِ الْأُسَارَى، وَلَا إنْ قَالَ: النَّصْرَانِيَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ، وَلَا إنْ قَالَ: لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا، صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي الرَّوْضَةِ، وَفِيهَا أَيْضًا لَوْ قَالَ فُلَانٌ فِي عَيْنِي كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فِي عَيْنِ اللَّهِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَفَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنْ أَرَادَ الْجَارِحَةَ كَفَرَ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّجَسُّمِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّا لَا نُكَفِّرُ الْمُجَسِّمَةَ، وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ: أَنَّهُ لَوْ شُفِيَ مَرِيضٌ ثُمَّ قَالَ لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لَمْ أَسْتَوْجِبْهُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكْفُرُ وَيُقْتَلُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ النِّسْبَةَ إلَى الْجَوْرِ، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ وَيُسْتَتَابُ وَيُعَزَّرُ ا هـ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ فِي مَسْأَلَةٍ: لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَالْأَوْلَى كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: أَنَّهُ إنْ قَالَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا أَوْ اسْتِغْنَاءً كَفَرَ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَا. وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ صَلَّى بِنَجِسٍ: مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنْ كُفْرِ مَنْ اسْتَحَلَّ الصَّلَاةَ بِنَجِسٍ مَمْنُوعٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهَا، بَلْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى الْجَوَازِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ ا هـ. وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكْفُرُ. فَائِدَةٌ: لَا بِدَعَ وَلَا إشْكَالَ فِي الْعِبَارَةِ الْمَعْزُوَّةِ إلَى إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عُمَرَ، وَصَحَّتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْكَارُهَا. قَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَهُوَ عَجِيبٌ لِأَنَّهَا صَحَّتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ شَيْخُ شَيْخِ شَيْخِ شَيْخِهِ، وَالْقَائِلُونَ بِجَوَازِ قَوْلِهَا اخْتَلَفُوا فِي الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لَهَا مَحَامِلَ كَثِيرَةً، وَالصَّوَابُ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إلَى تِلْكَ الْمَحَامِلِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ أَنَا مُؤْمِنٌ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ أَوْ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، فَمَعْنَاهُ أَنَا مُؤْمِنٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى تَأْوِيلٍ: بَلْ تَعْلِيقُهُ وَاضِحٌ مَأْمُورٌ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.
المتن: وَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَمُكْرَهٍ.
الشَّرْحُ: وَيُعْتَبَرُ فِيمَنْ يَصِيرُ مُرْتَدًّا بِشَيْءٍ مِمَّا مَرَّ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا (وَ) حِينَئِذٍ (لَا تَصِحُّ رِدَّةُ صَبِيٍّ) وَلَوْ مُمَيِّزًا (وَ) لَا رِدَّةَ (مَجْنُونٍ) لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا، فَلَا اعْتِدَادَ بِقَوْلِهِمَا وَاعْتِقَادِهِمَا. تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمُ الرِّدَّةِ وَإِلَّا فَالرِّدَّةُ فِعْلُ مَعْصِيَةٍ كَالزُّنَاةِ فَكَيْفَ يُوصَفُ بِالصِّحَّةِ عَدَمُهَا؟ (وَ) لَا رِدَّةَ (مُكْرَهٍ) وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَإِنْ رَضِيَ بِقَلْبِهِ فَمُرْتَدٌّ. تَنْبِيهٌ: لَوْ تَجَرَّدَ قَلْبُهُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى التَّلَفُّظِ عَنْ اعْتِقَادِ إيمَانٍ وَكُفْرٍ، فَفِي كَوْنِهِ مُرْتَدًّا وَجْهَانِ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا لِأَنَّ الْإِيمَانَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، وَقَوْلُ الْمُكْرَهِ مُلْغًى مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ اخْتِيَارٌ لِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ اخْتِيَارٌ لِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ.
المتن: وَلَوْ ارْتَدَّ فَجُنَّ لَمْ يُقْتَلْ فِي جُنُونِهِ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ ارْتَدَّ) وَلَمْ يُسْتَتَبْ (فَجُنَّ لَمْ يُقْتَلْ فِي جُنُونِهِ) لِأَنَّهُ قَدْ يَعْقِلُ وَيَعُودُ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ قُتِلَ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ عَلَى قَاتِلِهِ شَيْءٌ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ التَّهْذِيبِ وَأَقَرَّاهُ، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّ التَّأْخِيرَ مُسْتَحَبٌّ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ وُجُوبِ التَّوْبَةِ يَنْفِيهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّأْخِيرِ وَهُوَ الْوَجْهُ ا هـ. وَعَلَى هَذَا يُعَزَّرُ قَاتِلُهُ لِتَفْوِيتِهِ الِاسْتِتَابَةَ الْوَاجِبَةَ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الْمُهَذَّبِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ: أَيْ مِنْ قِصَاصٍ أَوْدِيَةٍ. تَنْبِيهٌ: أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِالتَّعْبِيرِ بِالْفَاءِ إلَى تَعَقُّبِ الْجُنُونِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا إذَا ارْتَدَّ وَاسْتُتِيبَ فَلَمْ يَتُبْ، ثُمَّ جُنَّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ جُنَّ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجِعُ عَنْ الْإِقْرَارِ، فَلَوْ اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ أَقَرَّ بِقَذْفٍ، أَوْ قِصَاصٍ، ثُمَّ جُنَّ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي جُنُونِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ.
المتن: وَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ رِدَّةِ السَّكْرَانِ وَإِسْلَامِهِ.
الشَّرْحُ: (وَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ رِدَّةِ السَّكْرَانِ) الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ كَطَلَاقِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَفِي صِحَّةِ اسْتِتَابَتِهِ حَالَ سُكْرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا نَعَمْ كَمَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورِ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ النَّصِّ. وَقَالَ الْعِمْرَانِيُّ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ وَالْإِسْنَوِيُّ إنَّهُ الْمُفْتَى بِهِ، لَكِنْ يُنْدَبُ تَأْخِيرُهَا إلَى الْإِفَاقَةِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي الْقَائِلُ بِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَزُولُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. أَمَّا غَيْرُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ كَأَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالِارْتِدَادِ كَمَا فِي طَلَاقِهِ وَغَيْرِهِ (وَ) الْمَذْهَبُ صِحَّةُ (إسْلَامِهِ) عَنْ رِدَّتِهِ، وَلَوْ ارْتَدَّ صَاحِيًا ثُمَّ أَسْلَمَ مُعَامَلَةً لِأَقْوَالِهِ مُعَامَلَةَ الصَّاحِي. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ الِاعْتِدَادِ بِإِسْلَامِهِ فِي السُّكْرِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدٍ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَلَيْسَ مُرَادًا، فَقَدْ حَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ النَّصِّ: أَنَّهُ إذَا أَفَاقَ عَرَضْنَا عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَإِنْ وَصَفَهُ كَانَ مُسْلِمًا مِنْ حِينِ وَصْفِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ كَانَ كَافِرًا مِنْ الْآنَ لِأَنَّ إسْلَامَهُ صَحَّ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ.
المتن: وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ يَجِبُ التَّفْصِيلِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ شَهِدُوا بِرِدَّةٍ فَأَنْكَرَ حُكِمَ بِالشَّهَادَةِ فَلَوْ
الشَّرْحُ: (وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ وَيُقْضَى بِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا. تَبَعًا لِلْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لِخَطَرِهَا لَا يُقَدَّمُ الشَّاهِدُ بِهَا إلَّا عَنْ بَصِيرَةٍ (وَقِيلَ يَجِبُ التَّفْصِيلُ) أَيْ: اسْتِفْسَارُ الشَّاهِدِ بِهَا لِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي التَّكْفِيرِ، وَالْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ عَظِيمٌ فَيُحْتَاطُ لَهُ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ. وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ: إنَّهُ الْمَعْرُوفُ عَقْلًا وَنَقْلًا. قَالَ: وَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ بَحَثَ لَهُ. وَقَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ تَبِعَ فِيهِ الْإِمَامَ وَهُوَ لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَخْرِيجِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَدُلُّ عَلَى التَّفْصِيلِ مَا قَالَاهُ فِيمَنْ مَاتَ عَنْ ابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ارْتَدَّ فَمَاتَ كَافِرًا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِ كُفْرِهِ خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ: مِنْ عَدَمِ التَّفْصِيلِ كَمَا سَيَأْتِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ كُفْرًا. أُجِيبَ بِأَنَّهُ هُنَا حَيٌّ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمَّا كَانَتْ الشَّهَادَةُ عِنْدَ مَنْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ كَالشَّافِعِيِّ قُبِلَتْ مُطْلَقَةً، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: تَلَفَّظْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْ السَّبَبِ، فَإِنْ امْتَنَعَ كَانَ امْتِنَاعُهُ قَرِينَةً لَا يَحْتَاجُ الشَّاهِدُ مَعَهَا إلَى ذِكْرِ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ مَنْ لَا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ كَالْمَالِكِيِّ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا مُفَصَّلَةً، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ مَنْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فَيَبْقَى فِيهِ عَارٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى الْجَوَابِ الْمُتَقَدِّمِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَوْجَهُ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إذَا شَهِدَا بِأَنَّهُ ارْتَدَّ عَنْ الْإِيمَانِ، فَلَوْ شَهِدَا بِأَنَّهُ ارْتَدَّ وَلَمْ يَقُولَا عَنْ الْإِيمَانِ أَوْ قَالَا: كَفَرَ وَلَمْ يَقُولَا: بِاَللَّهِ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ قَطْعًا (فَعَلَى الْأَوَّلِ) وَهُوَ قَبُولُهَا مُطْلَقًا (لَوْ شَهِدُوا) الْمُرَادُ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَلَى شَخْصٍ (بِرِدَّةٍ) وَلَمْ يَفْصِلُوا (فَأَنْكَرَ) الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ (حُكِمَ) عَلَيْهِ (بِالشَّهَادَةِ) وَلَا يَنْفَعُهُ إنْكَارُهُ: بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ وَالتَّكْذِيبُ وَالْإِنْكَارُ لَا يَرْفَعُهُ كَمَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَهُ أَوْ كَذَّبَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، فَإِنْ أَتَى بِمَا يُصَيِّرُهُ مُسْلِمًا قَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ بِالرِّدَّةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَكِنْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْنُونَةِ زَوْجَاتِهِ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهِنَّ أَوْ بَعْدَهُ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ، وَهَلْ يَنْعَزِلُ عَنْ وَظَائِفِهِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الْإِسْلَامُ أَوْ لَا؟ خِلَافٌ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. تَنْبِيهٌ: شَمِلَ قَوْلُهُ: شَهِدُوا بِرِدَّةٍ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إنْشَائِهِ أَوْ إقْرَارِهِ فَأَنْكَرَ. قَالَ فِي الْمَطْلَبِ: وَيُشْبِهُ فِيمَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِالرِّدَّةِ فَأَنْكَرَ فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ رُجُوعِهِ، وَقَوْلُهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ، بَلْ الْحُكْمُ كَذَلِكَ إذَا شَرَطْنَا التَّفْصِيلَ، فَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ أَوْ يُطْلِقَ التَّفْرِيعَ. وَلَوْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَطَلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِعِصْمَةِ دَمِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةُ زُورٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى قَبُولَ تَوْبَتِهِ فَلِلْقَاضِي تَجْدِيدُ إسْلَامِهِ، وَالْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ كَمَا أَفْتَى بِهِ جَمْعٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَصَوَّبَهُ. وَإِنْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ لِلْحَاكِمِ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ اعْتِرَافِهِ أَوْ إقَامَةِ بَيِّنَةٍ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ مَثَلًا أَنْ يَشْهَدَ بِالْكُفْرِ أَوْ بِالتَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ أَوْ بِمَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَيَحُدُّ بِالتَّعْرِيضِ وَيُعَزِّرُ بِأَبْلَغَ مَا يُوجِبُهُ الشَّافِعِيُّ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ الْمَنْعُ، فَإِنْ عَلِمَ الشَّاهِدُ أَنَّ لِسَانَهُ سَبَقَ إلَى كَلِمَةِ كُفْرٍ وَلَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ مِثْلَهُ مِنْ الطَّلَاقِ (فَلَوْ) صَدَّقَ شَخْصٌ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِرِدَّةٍ وَلَكِنْ.
المتن: قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا وَاقْتَضَتْهُ قَرِينَةٌ كَأَسْرِ كُفَّارٍ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ قَالَا: لَفَظَ لَفْظَ كُفْرٍ فَادَّعَى إكْرَاهًا صُدِّقَ مُطْلَقًا.
الشَّرْحُ: (قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا وَاقْتَضَتْهُ قَرِينَةٌ) مُشْعِرَةٌ بِذَلِكَ (كَأَسْرِ كُفَّارٍ) لَهُ (صُدِّقَ بِيَمِينِهِ) عَمَلًا بِالْقَرِينَةِ الْمُشْعِرَةِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَلَفَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ مُسْتَحَبَّةٌ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ تَقْتَضِهِ قَرِينَةٌ بِأَنْ كَانَ فِي دَارِ كُفْرٍ وَسَبِيلُهُ مُخَلًّى (فَلَا) يُقْبَلُ قَوْلُهُ، فَيُحْكَمُ بِبَيْنُونَةِ زَوْجِهِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَيُطَالَبُ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِانْتِفَاءِ الْقَرِينَةِ (وَلَوْ) لَمْ يَقُلْ الشَّاهِدَانِ ارْتَدَّ وَلَكِنْ (قَالَا لَفَظَ لَفْظَ كُفْرٍ) أَوْ فَعَلَ فِعْلَهُ (فَادَّعَى إكْرَاهًا) بَعْدَ أَنْ صَدَّقَهُمَا عَلَى ذَلِكَ (صُدِّقَ) بِيَمِينِهِ (مُطْلَقًا) بِقَرِينَةٍ وَدُونِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبُ الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي الرِّدَّةَ وَلَا يُنَافِي التَّلَفُّظَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ وَلَا الْفِعْلَ الْمُكَفِّرَ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُجَدِّدَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ قُتِلَ قَبْلَ الْيَمِينِ فَهَلْ يَضْمَنُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَثْبُتْ، أَوْ لَا؟ لِأَنَّ لَفْظَ الرِّدَّةِ وُجِدَ وَالْأَصْلُ الِاخْتِيَارُ: قَوْلَانِ أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الثَّانِي. تَنْبِيهٌ: اسْتَشْكَلَ الرَّافِعِيُّ تَصْوِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ، فَمِنْ الشَّرَائِطِ الِاخْتِيَارُ فَدَعْوَى الْإِكْرَاهِ تَكْذِيبٌ لِلشَّاهِدِ، أَوَّلًا فَالِاكْتِفَاءُ بِالْإِطْلَاقِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا شَهِدَا بِالرِّدَّةِ لِتَضَمُّنِهِ حُصُولَ الشَّرَائِطِ. أَمَّا إذَا قَالَ إنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَذَا فَيَبْعُدُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَيَقْنَعَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الِاخْتِيَارُ. . وَأُجِيبَ بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ وَيُمْنَعُ قَوْلُهُ: فَمِنْ الشَّرَائِطِ: الِاخْتِيَارُ، وَبِاخْتِيَارِ الثَّانِي، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْنَعَ بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ لِاعْتِضَادِهِ بِسُكُوتِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الدَّفْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي الْإِكْرَاهِ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَوْ تَلَفَّظَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا وَأَنْكَرَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا أَوْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةً أُخْرَى، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ كَمَا قَالَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَقَّ هُنَا لِلَّهِ تَعَالَى فَسُومِحَ فِيهِ بِخِلَافِهِ فِي الطَّلَاقِ، فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِآدَمِيٍّ فَشَدَّدَ فِيهِ.
المتن: وَلَوْ مَاتَ مَعْرُوفٌ بِالْإِسْلَامِ عَنْ ابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ارْتَدَّ فَمَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبَ كُفْرِهِ لَمْ يَرِثْهُ، وَنَصِيبُهُ فَيْءٌ وَكَذَا إنْ أَطْلَقَ فِي الْأَظْهَرِ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ مَاتَ) مَنْ هُوَ (مَعْرُوفٌ بِالْإِسْلَامِ عَنْ ابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا) أَيْ الِابْنَيْنِ (ارْتَدَّ) أَيْ الْأَبُ (فَمَاتَ كَافِرًا) وَأَنْكَرَ الْآخَرُ (فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبَ كُفْرِهِ) كَأَنْ قَالَ تَكَلَّمَ بِمَا يُوجِبُ الْكُفْرَ أَوْ سَجَدَ لِصَنَمٍ (لَمْ يَرِثْهُ وَنَصِيبُهُ فَيْءٌ) لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ (وَكَذَا) يَكُونُ نَصِيبُهُ فَيْئًا (إنْ أَطْلَقَ) أَيْ: لَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَ كُفْرِهِ (فِي الْأَظْهَرِ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِكُفْرِهِ فَعُومِلَ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ فَلَمْ يَرِثْ مِنْهُ، وَهَذَا التَّرْجِيحُ تَبِعَ فِيهِ الْمُحَرَّرَ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَالرَّوْضَةِ أَنَّهُ يَسْتَفْصِلُ، فَإِنْ ذَكَرَ مَا هُوَ كُفْرٌ كَانَ كَافِيًا، وَإِنْ ذَكَرَ مَا لَيْسَ كُفْرًا كَأَنْ قَالَ: كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ صُرِفَ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا وَقَفَ الْأَمْرُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَقَرَّهُ. فُرُوعٌ: لَوْ ارْتَدَّ أَسِيرٌ أَوْ غَيْرُهُ مُخْتَارًا ثُمَّ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، لَا إنْ صَلَّى فِي دَارِنَا؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ فِي دَارِنَا قَدْ تَكُونُ تَقِيَّةً بِخِلَافِهَا فِي دَارِهِمْ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ اعْتِقَادٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ صَلَّى كَافِرٌ أَصْلِيٌّ وَلَوْ فِي دَارِهِمْ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ عَلَقَةَ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ فِيهِ وَالْعَوْدُ أَهْوَنُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَسُومِحَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُسْمَعَ تَشَهُّدُهُ فِي الصَّلَاةِ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إسْلَامُهُ حِينَئِذٍ بِاللَّفْظِ وَالْكَلَامُ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ الدَّالَّةِ بِالْقَرِينَةِ. . أُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ رَفْعُ إيهَامِ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلشَّهَادَةِ فِيهَا لِاحْتِمَالِ الْحِكَايَةِ. وَلَوْ أُكْرِهَ أَسِيرٌ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى الْكُفْرِ بِبِلَادِ الْحَرْبِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ كَمَا مَرَّ، فَإِنْ مَاتَ هُنَاكَ وَرِثَهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ، فَإِنْ قَدِمَ عَلَيْنَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ اسْتِحْبَابًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِدَارِنَا، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَرْضِهِ عَلَيْهِ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ مِنْ حِينِ كُفْرِهِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مِنْ حِينَئِذٍ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْعَرْضِ وَالتَّلَفُّظِ بِالْإِسْلَامِ فَهُوَ مُسْلِمٌ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ قُدُومِهِ عَلَيْنَا.
المتن: وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ، وَفِي قَوْلٍ تُسْتَحَبُّ كَالْكَافِرِ، وَهِيَ فِي الْحَالِ، وَفِي قَوْلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَصَرَّا قُتِلَا، وَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّ وَتُرِكَ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا، فَقَالَ: (وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ) قَبْلَ قَتْلِهِمَا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُحْتَرَمَيْنِ بِالْإِسْلَامِ، فَرُبَّمَا عَرَضَتْ لَهُمَا شُبْهَةٌ فَيَسْعَى فِي إزَالَتِهَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الرِّدَّةَ تَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ عُرِضَتْ، وَثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِتَابَةِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ {فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ}. وَلَا يُعَارِضُ هَذَا: النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَرْبِيَّاتِ وَهَذَا عَلَى الْمُرْتَدَّاتِ؛ وَلِهَذَا نَصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمَرْأَةِ إشَارَةً إلَى الْخِلَافِ، لَكِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعَبِّرَ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إنْ لَمْ يَتُبْ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، لِأَنَّ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَتْلِهَا، لَا فِي اسْتِتَابَتِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: تُحْبَسُ وَتُضْرَبُ إلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تُسْلِمَ (وَفِي قَوْلٍ تُسْتَحَبُّ) اسْتِتَابَتُهُ (كَالْكَافِرِ) الْأَصْلِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: يَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَتِبْ الْعُرَنِيِّينَ. أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ حَارَبُوا، وَالْمُرْتَدُّ إذَا حَارَبَ لَا يُسْتَتَابُ (وَهِيَ) أَيْ: الِاسْتِتَابَةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا (فِي الْحَالِ) فِي الْأَظْهَرِ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، فَلَا يُؤَخَّرُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ السَّكْرَانَ يُسَنُّ تَأْخِيرُهُ إلَى الصَّحْوِ، وَلَوْ سَأَلَ الْمُرْتَدُّ إزَالَةَ شُبْهَةٍ نُوظِرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَنْحَصِرُ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ كَمَا فِي نُسَخِ الرَّافِعِيِّ الْمُعْتَمَدَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِنُسَخِ الرَّافِعِيِّ السَّقِيمَةِ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ الْمُنَاظَرَةُ أَوَّلًا، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ النَّصِّ عَدَمُهَا، وَإِنْ شَكَّا قَبْلَ الْمُنَاظَرَةِ جُوعًا أُطْعِمَ، ثُمَّ نُوظِرَ (وَفِي قَوْلٍ) يُمْهَلُ فِيهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِأَثَرٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَأَخَذَ بِهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُدْعَى إلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أَبَى قُتِلَ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ شَهْرَيْنِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: يُسْتَتَابُ أَبَدًا، وَعَلَى التَّأْخِيرِ يُحْبَسُ مُدَّةَ الْإِمْهَالِ وَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُ (فَإِنْ) لَمْ يَتُبْ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ عَنْ الرِّدَّةِ: بَلْ (أَصَرَّا) عَلَيْهَا (قُتِلَا) وُجُوبًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَيَقْتُلُهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ إنْ كَانَ حُرًّا لِأَنَّهُ قَتْلٌ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ لِلْإِمَامِ وَلِمَنْ أَذِنَ لَهُ كَرَجْمِ الزَّانِي، هَذَا إنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَإِنْ قَاتَلَ جَازَ قَتْلُهُ لِكُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ قَتْلُ رَقِيقِهِ الْمُرْتَدِّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُقْتَلُ بِضَرْبِ الْعُنُقِ دُونَ الْإِحْرَاقِ وَنَحْوِهِ لِلْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَتَلَهُ بِغَيْرِهِ أَوْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ عُزِّرَ الْأَوَّلُ لِعُدُولٍ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَالثَّانِي لِافْتِيَاتِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، نَعَمْ إنْ قَتَلَهُ مُرْتَدٌّ قُتِلَ بِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْجِنَايَاتِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا يُدْفَنُ الْمُرْتَدُّ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِخُرُوجِهِ بِالرِّدَّةِ عَنْهُمْ، وَلَا فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ ا هـ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ كَافِرًا فَلَا مَانِعَ مِنْ دَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ، فَقَدْ مَرَّ أَنَّ الرِّدَّةَ أَفْحَشُ الْكُفْرِ (وَإِنْ) كَانَ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ارْتَدَّا إلَى دِينٍ لَا تَأْوِيلَ لِأَهْلِهِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ، وَمَنْ يُقِرُّ بِالتَّوْحِيدِ وَيُنْكِرُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ (أَسْلَمَ صَحَّ) إسْلَامُهُ إذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُخْتَصَرِ الْكِفَايَةِ: وَهُمَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَنْ أَفْتَى مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ أَشْهَدُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ. وَقَالَ الزَّنْكَلُونِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ: وَهُمَا لَا إلَهُ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ لَفْظَةَ أَشْهَدُ لَا تُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَنْ أَفْتَى بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ حَالًا اخْتَلَفَ الْمُفْتُونَ فِي الْإِفْتَاءِ فِي عَصْرِنَا فِيهَا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ النَّقِيبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَمَالِ، وَمَا قَالَهُ الزَّنْكَلُونِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى أَقَلَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْلَامُ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَرْتِيبِ الشَّهَادَتَيْنِ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ ثُمَّ بِرَسُولِهِ، فَإِنْ عَكَسَ لَمْ يَصِحَّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْتِيبِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: إنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا لَا تُشْتَرَطُ. فَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِيمَانُ بِالرِّسَالَةِ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مُدَّةً طَوِيلَةً صَحَّ. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَدْعُوِّ إلَى دِينِ الْحَقِّ أَنْ يَدُومَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَكَأَنَّ الْعُمْرَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْلِسِ (وَ) إذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَلِكَ (تُرِكَ) وَلَوْ كَانَ زِنْدِيقًا، أَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُضِيُّ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} نَعَمْ يُعَزَّرُ مَنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ لِزِيَادَةِ تَهَاوُنِهِ بِالدِّينِ فَيُعَزَّرُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَمَا بَعْدَهَا، وَلَا يُعَزَّرُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَحَكَى ابْنُ يُونُسَ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّمَا يُعَزَّرُ فِي الثَّالِثَةِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الرَّابِعَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَعُدَّ هَذَا مِنْ هَفَوَاتِهِ ا هـ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ.
المتن: وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ إسْلَامُهُ إنْ ارْتَدَّ إلَى كُفْرٍ خَفِيٍّ كَزَنَادِقَةٍ وَبَاطِنِيَّةٍ.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُثَنِّيَ أَسْلَمَ، وَتَرَكَ لِيُوَافِقَ مَا قَبْلَهُ، وَلَكِنْ يَحْصُلُ بِمَا قَدَّرْتُهُ (وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ) أَيْ: لَا يَصِحُّ (إسْلَامُهُ إنْ ارْتَدَّ إلَى كُفْرٍ خَفِيٍّ كَزَنَادِقَةٍ) وَهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَيُخْفِي الْكُفْرَ كَمَا قَالَاهُ هُنَا وَفِي الْفَرَائِضِ وَصِفَةِ الْأَئِمَّةِ، وَقَالَا فِي اللِّعَانِ: هُمْ مَنْ لَا يَنْتَحِلُ دِينًا، وَصَوَّبَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إنَّهُ الْأَقْرَبُ فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُنَافِقُ وَقَدْ غَايَرُوا بَيْنَهُمَا (وَ) قِيلَ: لَا يُقْبَلُ إسْلَامُهُ إنْ ارْتَدَّ إلَى كُفْرٍ (بَاطِنِيَّةٍ) وَهُمْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ لِلْقُرْآنِ بَاطِنًا وَأَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ دُونَ الظَّاهِرِ، وَقِيلَ هُمْ ضَرْبٌ مِنْ الزَّنَادِقَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ شَيْئًا ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ يُدَبِّرُ الْعَالَمَ، وَسَمَّوْا الْأَوَّلَ الْعَقْلَ، وَالثَّانِيَ النَّفْسَ، وَإِنْ كَانَ ارْتَدَّ إلَى دِينٍ يَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، أَوْ إلَى دِينِ مَنْ يَقُولُ رِسَالَتُهُ حَقٌّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ، أَوَجَحَدَ فَرْضًا أَوْ تَحْرِيمًا لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَمَّا اعْتَقَدَهُ، وَلَا يَكْفِي شَهَادَةُ الْفَلْسَفِيِّ، وَهُوَ النَّافِي لِاخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ عِلَّةُ الْأَشْيَاءِ وَمَبْدَؤُهَا حَتَّى يَشْهَدَ بِالِاخْتِرَاعِ وَالْإِحْدَاثِ مِنْ الْعَدَمِ، وَلَا يَكْفِي الطَّبَائِعِيُّ الْقَائِلُ بِنِسْبَةِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ إلَى الطَّبِيعَةِ لَا إلَهُ إلَّا الْمُحْيِي الْمُمِيتِ حَتَّى يَقُولَ لَا إلَهُ إلَّا اللَّهُ وَنَحْوُهُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَأْوِيلَ لَهُ فِيهَا. وَأَمَّا الْبَرْهَمِيُّ وَهُوَ مُوَحِّدٌ يُنْكِرُ الرُّسُلَ فَإِنْ قَالَ مَعَ لَا إلَهُ إلَّا اللَّهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ مِنْ الرُّسُلِ، لَا إنْ قَالَ عِيسَى وَمُوسَى وَكُلُّ نَبِيٍّ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إقْرَارٌ بِرِسَالَةِ مَنْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ لَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ لَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ فَقَدْ شَهِدُوا لَهُ وَبَشَّرُوا بِهِ. . أُجِيبَ بِأَنَّ شَرِيعَتَهُ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا بَاقِيَةٌ، بِخِلَافِ شَرِيعَةِ غَيْرِهِ، وَالْمُعَطِّلُ إذَا قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قِيلَ يَكُونُ مُؤْمِنًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمُرْسِلَ وَالرَّسُولَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَغَيْرِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ يَهُودِيٌّ بِرِسَالَةِ عِيسَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَعْضِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُقْبَلُ تَوْبَةُ مُكَذِّبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا قَاذِفِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ: إنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا، وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ بِإِسْلَامِهِ وَبَقِيَ جَلْدُهُ. فَائِدَةٌ: يَصِحُّ الْإِسْلَامُ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، وَبِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ. نَعَمْ لَوْ لُقِّنَ الْعَجَمِيُّ الْكَلِمَةَ الْعَرَبِيَّةَ فَقَالَهَا وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا لَمْ يَكْفِ، وَيُسَنُّ امْتِحَانُ الْكَافِرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِتَقْرِيرِهِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ قَالَ بَدَلَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ أَحْمَدُ أَوْ أَبُو الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ كَفَاهُ، وَلَوْ قَالَ: النَّبِيُّ بَدَلَ: رَسُولُ اللَّهِ كَفَاهُ لَا الرَّسُولُ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَرَسُولِ اللَّهِ، فَلَوْ قَالَ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ كَفَى، بِخِلَافِ آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالرَّسُولُ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ، وَبِخِلَافِ آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى. تَنْبِيهٌ: غَيْرُ وَسِوَى وَمَا عَدَا وَنَحْوُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَإِلَّا فِي الِاكْتِفَاءِ بِهَا كَقَوْلِهِ: لَا إلَهَ غَيْرُ اللَّهِ، أَوْ سِوَى اللَّهِ، أَوْ مَا عَدَا اللَّهَ، أَوْ خَلَا اللَّهَ. وَلَوْ قَالَ كَافِرٌ: أَنَا مِنْكُمْ، أَوْ مِثْلُكُمْ، أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ وَلِيُّ مُحَمَّدٍ، أَوْ أُحِبُّهُ، أَوْ أَسْلَمْتُ، أَوْ آمَنْتُ لَمْ يَكُنْ اعْتِرَافًا بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ أَنَا مِنْكُمْ أَوْ مِثْلُكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ، فَإِنْ قَالَ: آمَنْتُ أَوْ أَسْلَمْتُ، أَوْ أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ مِثْلُكُمْ، أَوْ أَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ دِينُكُمْ حَقٌّ، أَوْ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مَنْ يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ، أَوْ اعْتَرَفَ مَنْ كَفَرَ بِإِنْكَارِي وُجُوبَ شَيْءٍ بِوُجُوبِهِ، فَفِيهِ طَرِيقَتَانِ: إحْدَاهُمَا وَهِيَ مَا عَلَيْهَا الْجُمْهُورُ، وَهِيَ الرَّاجِحَةُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِالْإِسْلَامِ. وَالثَّانِيَةُ وَنَسَبَهَا الْإِمَامُ لِلْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ يَكُونُ اعْتِرَافًا بِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ تُخَالِفُ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكْفِ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي التَّعْطِيلَ الَّذِي يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ، وَهُوَ لَيْسَ بِمِلَّةٍ، وَلَوْ قَالَ: لَا رَحْمَنَ، أَوْ لَا بَارِئَ إلَّا اللَّهُ، أَوْ مَنْ آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَكْفِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ خِلَافًا لِلْحَلِيمِيِّ، وَمَنْ قَالَ: آمَنْتُ بِاَلَّذِي لَا إلَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ الْوَثَنَ، وَكَذَا لَا إلَهُ إلَّا الْمَلِكُ أَوْ الرَّزَّاقُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ السُّلْطَانَ الَّذِي يَمْلِكُ أَمْرَ الْجُنْدِ وَيُرَتِّبُ أَرْزَاقَهُمْ، فَإِنْ قَالَ: آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ قَبْل ذَلِكَ صَارَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ فَيَأْتِي بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا لَمْ يَضُرَّ مُؤْمِنًا حَتَّى يَضُمَّ إلَيْهِ: وَكَفَرْتُ بِمَا كُنْتُ أَشْرَكْتُ بِهِ، وَمَنْ قَالَ بِقِدَمِ غَيْرِ اللَّهِ كَفَى لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَنْ يَقُولَ لَا قَدِيمَ إلَّا اللَّهُ كَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ يَكْفِيهِ أَيْضًا: اللَّهُ رَبِّي.
المتن: وَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ إنْ انْعَقَدَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، وَأَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَمُسْلِمٌ، أَوْ مُرْتَدَّانِ فَمُسْلِمٌ، وَفِي قَوْلٍ مُرْتَدٌّ، وَفِي قَوْلٍ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ قُلْتُ: الْأَظْهَرُ مُرْتَدٌّ، وَنَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ الِاتِّفَاقَ عَلَى كُفْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ،
الشَّرْحُ: (وَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ إنْ انْعَقَدَ قَبْلَهَا) أَيْ الرِّدَّةِ (أَوْ) انْعَقَدَ (بَعْدَهَا) أَيْ فِيهَا (وَأَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَمُسْلِمٌ) ذَلِكَ الْوَلَدُ بِالتَّبَعِيَّةِ لِلْمُسْلِمِ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ (أَوْ) وَأَبَوَاهُ (مُرْتَدَّانِ فَمُسْلِمٌ) أَيْضًا لِبَقَاءِ عَلَقَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِمَا وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ كُفْرٌ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ الْمُحَرَّرُ تَبَعًا لِجَمْعٍ، وَعَلَيْهِ لَا يَسْتَرِقُّ (وَفِي قَوْلٍ) هُوَ (مُرْتَدٌّ) تَبَعًا لَهُمَا، وَعَلَى هَذَا لَا يُسْتَرَقُّ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ كَمَا لَا يُسْتَرَقُّ أَبَوَاهُ، وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُسْتَتَابَ، فَإِنْ أَصَرَّ قُتِلَ (وَفِي قَوْلٍ) هُوَ (كَافِرٌ أَصْلِيٌّ) لِتَوَلُّدِهِ بَيْنَ كَافِرَيْنِ وَلَمْ يُبَاشِرْ الرِّدَّةَ حَتَّى يَغْلُظَ عَلَيْهِ (قُلْتُ: الْأَظْهَرُ) هُوَ (مُرْتَدٌّ) إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أُصُولِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ (وَنَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ) الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيْرُهُمْ (الِاتِّفَاقَ عَلَى كُفْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). فَإِنْ كَانَ فِي أُصُولِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ كَمَا مَرَّ ذَلِكَ فِي بَابِ اللَّقِيطِ. تَنْبِيهٌ: مَا ادَّعَاهُ مَنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ اعْتَمَدَ فِيهِ قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الصَّيْمَرِيَّ شَيْخَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ كِبَارِهِمْ، وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ غَيْرَهُ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ إنَّ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ قَاضِيَةٌ بِهِ، وَأَطَالَ فِي بَيَانِهِ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَفِي تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِمُرْتَدٍّ وَكَافِرٍ أَصْلِيٍّ تَسَمُّحٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فَهُوَ عَلَى حُكْمِ الْكُفْرِ، وَسَكَتَ الْأَصْحَابُ هُنَا عَمَّا لَوْ أَشْكَلَ عُلُوقُهُ هَلْ هُوَ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ أَنَّهُ عَلَى الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَانٍ، وَيَدُلُّ لَهُ كَلَامُهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَمْلِ، وَأَوْلَادِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَفَّرْنَاهُمْ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ أَيْضًا أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مَا لَمْ يَعْتَقِدُوا بَعْدَ بُلُوغِهِمْ كُفْرًا؛ لِأَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاعْتِقَادُ الْأَبِ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي اللَّقِيطِ حُكْمُ أَطْفَالِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ.
المتن: وَفِي زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ مَالِهِ بِهَا أَقْوَالٌ: أَظْهَرُهَا إنْ هَلَكَ مُرْتَدًّا بَانَ زَوَالُهُ بِهَا، وَإِنْ أَسْلَمَ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ يُقْضَى مِنْهُ دَيْنٌ لَزِمَهُ قَبْلَهَا.
الشَّرْحُ: (وَفِي زَوَالِ مِلْكِهِ) أَيْ الْمُرْتَدِّ (عَنْ مَالِهِ) الْحَاصِلِ قَبْلَهَا أَوْ فِيهَا بِنَحْوِ اصْطِيَادٍ (بِهَا) أَيْ: الرِّدَّةِ (أَقْوَالٌ: أَظْهَرُهَا) الْوَقْفُ كَبُضْعِ زَوْجَتِهِ سَوَاءٌ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا فَعَلَيْهِ (إنْ هَلَكَ مُرْتَدًّا بَانَ زَوَالُهُ بِهَا) أَيْ الرِّدَّةِ فَمَا مَلَكَهُ فَيْءٌ وَمَا تَمَلَّكَهُ مِنْ احْتِطَابٍ وَنَحْوِهِ بَاقٍ عَلَى الْإِبَاحَةِ (وَإِنْ أَسْلَمَ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ) لِأَنَّ بُطْلَانَ أَعْمَالِهِ تَتَوَقَّفُ عَلَى هَلَاكِهِ عَلَى الرِّدَّةِ فَكَذَا زَوَالُ مِلْكِهِ، وَالثَّانِي يَزُولُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لِزَوَالِ الْعِصْمَةِ بِرِدَّتِهِ فَمَالُهُ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ لَا يَزُولُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي الْمِلْكَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ (وَ) يَتَفَرَّعُ (عَلَى) هَذِهِ (الْأَقْوَالِ) أَنَّهُ (يُقْضَى مِنْهُ) أَيْ: مَالِ الْمُرْتَدِّ (دَيْنٌ لَزِمَهُ قَبْلَهَا) بِإِتْلَافٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ أَوْ مَوْقُوفٌ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ قُلْنَا: بِزَوَالِهِ فَهِيَ لَا تَزِيدُ عَلَى الْمَوْتِ، وَالدَّيْنُ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَكَذَا عَلَى حَقِّ الْفَيْءِ، وَإِذَا مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وُفِّيَ، ثُمَّ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ صُرِفَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهَلْ يَنْتَقِلُ جَمِيعُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا مُتَعَلِّقًا بِهِ الدَّيْنُ كَمَا تُنْقَلُ التَّرِكَةُ لِلْوَرَثَةِ كَذَلِكَ، أَوْ لَا يَنْتَقِلُ لِلْفَيْءِ إلَّا الْفَاضِلُ عَنْ الدَّيْنِ؟ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ مُخْتَصَرِ التَّبْرِيزِيِّ الثَّانِيَ.
المتن: وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَالْأَصَحُّ يَلْزَمُهُ غُرْمُ إتْلَافِهِ فِيهَا، وَنَفَقَةُ زَوْجَاتٍ وُقِفَ نِكَاحُهُنَّ وَقَرِيبٍ، وَإِذَا وَقَفْنَا مِلْكَهُ فَتَصَرُّفُهُ إنْ احْتَمَلَ الْوَقْفَ كَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَوَصِيَّةٍ مَوْقُوفٌ، إنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِلَّا فَلَا، وَبَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَرَهْنُهُ وَكِتَابَتُهُ بَاطِلَةٌ، وَفِي الْقَدِيم مَوْقُوفَةٌ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ يُجْعَلُ مَالُهُ مَعَ عَدْلٍ، وَأَمَتُهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٌ، وَيُؤَدِّي مُكَاتَبُهُ النُّجُومَ إلَى الْقَاضِي.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: هَلْ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي، وَجَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّ الْجُمْهُورَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَى الثَّانِي هَلْ هُوَ كَحَجْرِ الْفَلَسِ، أَوْ السَّفَهِ، أَوْ الْمَرَضِ؟. فِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا أَوَّلُهَا (وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ) أَيْ: الْمُرْتَدِّ زَمَنَ اسْتِتَابَتِهِ (مِنْهُ) أَيْ مَالِهِ، وَتُجْعَلُ حَاجَتُهُ لِلنَّفَقَةِ كَحَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى التَّجْهِيزِ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ (وَالْأَصَحُّ يَلْزَمُهُ غُرْمُ إتْلَافِهِ) مَالِ غَيْرِهِ (فِيهَا) أَيْ الرِّدَّةِ حَتَّى لَوْ ارْتَدَّ جَمْعٌ وَامْتَنَعُوا عَنْ الْإِمَامِ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ إلَّا بِقِتَالٍ، فَمَا أَتْلَفُوا فِي الْقِتَالِ إذَا أَسْلَمُوا ضَمِنُوهُ عَلَى الْأَظْهَرِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَإِنْ صَحَّحَ فِي الْبَيَانِ عَدَمَ الضَّمَانِ (وَ) الْأَصَحُّ يَلْزَمُهُ (نَفَقَةُ زَوْجَاتٍ وُقِفَ نِكَاحُهُنَّ وَقَرِيبٍ) لِأَنَّهَا حُقُوقٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ هَذَا هُوَ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ. وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ. تَنْبِيهٌ: هَذَا الْخِلَافُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ أَوْ مَوْقُوفٌ لَزِمَهُ ذَلِكَ قَطْعًا، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ نَفَقَةِ الرَّقِيقِ. قَالَ فِي الْمَطْلَبِ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ كَالزَّوْجَةِ (وَإِذَا وَقَفْنَا مِلْكَهُ) وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَمَا مَرَّ وَفَرَّعْنَا عَلَيْهِ (فَتَصَرُّفُهُ) الْوَاقِعُ مِنْهُ فِي رِدَّتِهِ (إنْ احْتَمَلَ) أَيْ: قَبِلَ (الْوَقْفَ) بِأَنْ قَبِلَ التَّعْلِيقَ (كَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَوَصِيَّةٍ مَوْقُوفٌ) لُزُومُهُ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ (إنْ أَسْلَمَ نَفَذَ) بِمُعْجَمَةٍ: أَيْ: بَانَ نُفُوذُهُ (وَإِلَّا) بِأَنْ مَاتَ مُرْتَدًّا (فَلَا) يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَضُرُّهُ (وَبَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَرَهْنُهُ وَكِتَابَتُهُ) وَنَحْوُهَا مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْوَقْفَ (بَاطِلَةٌ) بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ وَقْفِ الْعُقُودِ وَهُوَ الْجَدِيدُ (وَفِي الْقَدِيمِ) هِيَ (مَوْقُوفَةٌ) بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعُقُودِ، فَإِنْ أَسْلَمَ حُكِمَ بِصِحَّتِهَا، وَإِلَّا فَلَا. تَنْبِيهٌ: مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْ وَقْفِ الْعُقُودِ حَتَّى تَبْطُلَ عَلَى الْجَدِيدِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُحَرَّرِ هُنَا وَفِي الْكِتَابَةِ، وَصَوَّبَهُ فِي الرَّوْضَةِ هُنَا، وَإِنْ رَجَّحَا فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ صِحَّتَهَا، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ (وَعَلَى الْأَقْوَالِ) السَّابِقَةِ (يُجْعَلُ مَالُهُ مَعَ) أَيْ: عِنْدَ (عَدْلٍ) يَحْفَظُهُ (وَأَمَتُهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ) أَوْ مَنْ يَحِلُّ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهَا كَالْمَحْرَمِ احْتِيَاطًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بِهِ. تَنْبِيهٌ: قَدْ يُفْهَمُ كَلَامُهُ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْجَعْلِ الْمَذْكُورِ عَلَى قَوْلِ بَقَاءِ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَيُؤَدِّي مُكَاتَبُهُ النُّجُومَ إلَى الْقَاضِي) حِفْظًا لَهَا وَيُعْتَقُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُرْتَدُّ، لِأَنَّ قَبْضَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَوْ أَدَّى فِي الرِّدَّةِ زَكَاةً وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ قَالَ الْقَفَّالُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَسْقُطَ، وَلَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى السُّقُوطِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّةِ هُنَا التَّمْيِيزُ. خَاتِمَةٌ: لَوْ امْتَنَعَ مُرْتَدُّونَ بِنَحْوِ حِصْنٍ بَدَأْنَا بِقِتَالِهِمْ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَغْلَظُ كَمَا مَرَّ، وَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّبَعْنَا مُدْبِرَهُمْ، وَذَفَفْنَا عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَاسْتَتَبْنَا أَسِيرَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ كَمَا مَرَّ وَيُقَدَّمُ الْقِصَاصُ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ حَيْثُ لَزِمَتْهُ فِي مَالِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَةَ لَهُ مُعَجَّلَةً فِي الْعَمْدِ وَمُؤَجَّلَةً فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ مَاتَ حَلَّتْ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ بِالرِّدَّةِ، وَلَوْ وَطِئَ مُرْتَدَّةً بِشُبْهَةٍ كَأَنْ وَطِئَهَا مُكْرَهَةً، أَوْ اسْتَخْدَمَ الْمُرْتَدُّ أَوْ الْمُرْتَدَّةُ إكْرَاهًا فَوُجُوبُ الْمَهْرِ وَالْأُجْرَةِ مَوْقُوفَانِ، وَلَوْ أَتَى فِي رِدَّتِهِ مَا يُوجِبُ حَدًّا كَأَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَذَفَ، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا حُدَّ ثُمَّ قُتِلَ.
|